المقالات

يوم المعلّم… من زمن النُّوتة إلى زمن المنصّة

في الخامس من أكتوبر يتحدث العالم عن المعلّم،
لكننا لا نحتاج يوماً واحداً لنحتفي به،
بل أن نتذكّر كيف غيّر فينا كل الأيام.
حين كان التعليم يصنع الإنسان، لا يخرّج المتلقين،
وحين كان المعلّم يربّي قبل أن يدرّس، ويقوّم بالنموذج قبل الملاحظة.

أتذكّر أيامي في مدارس الثغر النموذجية،
ذلك الصرح الذي أسّسه الملك فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله،وفيه تجسّدت الرؤية المبكرة لنهضة التعليم السعودي.
أراد الملك فيصل أن تكون المدرسة بيئة تنشئ الإنسان لا المعلومة فقط، وتغرس القيم الوطنية والانضباط قبل الدرجات.
وقد لخّص رؤيته في كلمته الشهيرة لجريدة عكاظ عام 1380هـ حين قال:

“أعدّ نفسي عضواً من أسرة مدرسة الثغر، لذلك أشكر كل من يستجيب لدعوتها.
أحب لهذه المدرسة أن تجد في كل يوم جديداً من عمل، وأحب أن تبدأ اليوم من حيث انتهت أمس،
ولا أريدها أن تسير في نظام رتيب…
أريد أن تكون المدرسة مستوى كريماً عالياً وميدان جد وتسابق لا مكان فيه للخاملين أو المقصرين.”

لم تكن تلك الكلمات إشادة، بل دستوراً تربوياً جعل من الثغر صرحاً للتميّز والتجديد. منح الملك فيصل المعلمين حرية الإبداع، وشجّع الطلاب على الاجتهاد والانضباط الذاتي، حتى غدت الثغر مدرسة تصنع الإنسان المتميّز، وسابقة في مفهوم التربية التي تجمع بين الأخلاق والمعرفة.

وفي هذا اليوم، أوجّه تحية إجلال ووفاء لكلّ الثغريين الذين علّموني، رجالٌ ما زالوا في الذاكرة حضورًا وفي القلب أثرًا. أتذكّر القامات التي غرست فينا الثقة والانضباط والفضيلة أساتذتي ومعلمينا الأفاضل:
عبدالله باناعمة، محمد سلطان، مرزوق العليان، كمال السوادي،منير سليم، خالد عبدالكافي، عبدالغني بله، أحمد الرابغي،أنس الأحمدي، محمد العصيمي، أحمد اليحيى، عبدالعزيز الرفاعي، مروان قماش،
وخالد الرميح، وصلاح قناه، وعبدالله الصبحي، وفؤاد مليباري، ومحمد شعبان، وآمين العايدي، ومحمد سلطان رحمة الله.. والكثير من القدوات الذين تركوا فينا بصمة لا تُمحى.
وبكل فخرٍ ما زلت على تواصل مع بعضهم،
نتبادل الدعاء والحديث وكأن الزمن لم يمرّ،
لأن أثرهم لم يكن في المنهج بل فينا نحن.

في ذلك الزمن كانت الأسرة جزءاً من المدرسة.
كان الأب إذا دُعي، جاء شاكراً لا معترضاً،
يسمع المعلّم كما يسمع الطبيب حين يشرح الدواء.
كان الحوار بين البيت والمدرسة شراكةً في التربية لا صراعاً في المسؤولية.

كان لكل طالب “نُوْتَة” صغيرة؛
يكتب فيها واجباته ويسجّل المعلّم ملاحظاته بخط يده،
وفي المساء يوقّع ولي الأمر بالاطلاع،
فيعلم المعلّم أن جهده وصل إلى البيت،
وأن التربية كانت عملاً مشتركاً.

اليوم حلّت التقنية محل تلك النُّوتة،
لكنها لم تحمل دفء العلاقة.
صار التواصل نقراً على شاشة لا حديثاً من قلبٍ إلى قلب، وتحوّل التعليم إلى أرقام ودرجات،
بينما ضعفت الصلاحيات وسُهّلت الاختبارات،
وتجزأت المذاكرة حتى صارت المخرجات – إلا من رحم الله – سطحية لا تعبّر عن الفهم ولا عن الجهد.

أنظر اليوم إلى أبنائي في مدارسهم الحديثة،
فأرى النظام أكثر لكن الروح أقل.
التقنية أوضح، لكن الإنسان أبعد.
المناهج مليئة، لكن المعنى أحياناً فارغ.
يتعلمون ليجتازوا اختباراً لا ليجتازوا أنفسهم.
وتُقاس جودة التعليم بدرجةٍ في ورقة،
بينما كانت تُقاس يوماً بخلقٍ في موقف، وبقدرة الطالب على أن يصبح إنساناً أفضل.

لكن يوم المعلّم ليس للشكوى بل للتذكير.
نحتفل لأننا نؤمن أن المعلّم ما زال حجر الأساس في كل إصلاح، وأن التعليم يبدأ حين يشعر أن مهنته رسالة لا وظيفة. ولهذا أكّدت توصية اليونسكو ومنظمة العمل الدولية منذ عام 1966
أن المعلّم لا يطالب بالحقوق إلا ليؤدي الواجب بأمانة،
وأن التوازن بين الحق والمستحق هو ما يصنع عدالة التعليم.

الحقّ في الكرامة والأمان يقابله واجب الإخلاص والكفاءة، والحقّ في المشاركة بالقرار يقابله واجب التطوير والتحسين. فلا تُبنى المهنة إلا إذا التزم الطرفان بالعقد الأخلاقي الذي يجمعهما.

ولإعادة مكانة التعليم علينا أن نبدأ من المعلّم.
نمنحه حرية التفكير لا تنفيذ المناهج،
ونربط تقييمه بأثره في طلابه لا بعدد أوراقه،
ونكافئ المبدع بالتحفيز،
ونرشد المقصر بخطة تطوير لا بعقوبة.

نحتاج إلى بيئةٍ جاذبةٍ تُعامل المعلّم كشريكٍ في القرار:
عدد حصصٍ معقول، وقتٌ كافٍ للتحضير،
دورات تطوير حقيقية، وزمالات بحثية تفتح الأفق.
وأن يُعامل كما يُعامل الطبيب والمهندس،
بثقةٍ في كفاءته وتقديرٍ لرسالته.

رؤية السعودية 2030 فهمت ذلك تماماً،
فهي لم تجعل التعليم هدفاً منفصلاً بل طريقاً لكل الأهداف.
وضعت المعلّم في قلب التحوّل الوطني،
لأنه صانع الإنسان الذي تُبنى عليه الرؤية.
هو من يزرع حب الوطن والمسؤولية،
ويحوّل الطموح إلى قدرة والمعلومة إلى وعي.

وقد قيل عن المعلّم أجمل ما يُقال:
قال أحمد شوقي: “قم للمعلّم وفّه التبجيلا… كاد المعلّم أن يكون رسولا.”
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “من علّمني حرفاً صرت له عبداً.”
وقال الملك فيصل رحمه الله: “لو لم أكن ملكاً، لوددت أن أكون معلماً.”

هذه الأقوال لم تُخلّد المهنة عبثاً،
بل لأنها المهنة التي يبدأ منها كل إصلاحٍ وتنتهي عندها كل أمة.

في يوم المعلّم… من زمن النُّوتة إلى زمن المنصّة،
نقف لا لنقارن بين الورق والشاشة،
بل لنستعيد روح العلاقة التي قامت على الإخلاص والثقة.
كانت النُّوتة رمزاً للتواصل الإنساني بين البيت والمدرسة، ويمكن للمنصّة اليوم أن تكون امتداداً لتلك الرسالة إن حملت صدقها ودفئها. فالتقنية وسيلة، لكن التربية قرار، والمعلّم هو من يمنح الوسيلة روحها ويمنح القرار إنسانيته.

من زمن النُّوتة إلى زمن المنصّة، قد تغيّرت الأدوات، لكن الرسالة باقية: أن التعليم لا يُقاس بالمعلومة، بل بالإنسان الذي ينهض بها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى