المقالات

هندسة القرار… من المعادلة إلى الدولة سلسلة هندسة الرؤية (٣-٨)

حين يُقال “اتُّخذ القرار”، يظن البعض أن القرار كلمةٌ تُقال في اجتماع، أو توقيعٌ على ورقة.
لكن في عقل المهندس الصناعي، القرار ليس لحظةً بل نتيجةُ حسابٍ طويل،
تُبنى فيها المعادلات كما تُبنى الجسور، وتُختبر فيها الاحتمالات كما تُختبر المواد قبل البناء.

تأملوا مثلًا قرار المملكة بزيادة إنتاج النفط.
من الخارج، يبدو الأمر بسيطًا: زيادة في الكمية تساوي زيادة في الدخل.
لكن في الحقيقة، القرار أشبه بميزانٍ حساسٍ يحمل على كفَّيه مصالح السوق العالمي والاقتصاد المحلي معًا.
زيادة غير محسوبة قد ترفع الإيرادات مؤقتًا ثم تُربك السوق وتخفض الأسعار،
وقلة الإنتاج قد تحفظ السعر لكنها تُضعف الحصة السوقية وتفتح المجال لمنافسين آخرين.
هنا تتجلى الهندسة في أبهى صورها:
توازنٌ بين الكم والسعر، بين اللحظة والمستقبل، بين المصلحة الوطنية واستقرار السوق الدولي.

وكما قال معالي الوزير عادل الجبير:

“المملكة لا تُسيّس النفط ولا تستخدمه سلاحًا، بل تديره بعقلٍ اقتصاديٍّ يخدم استقرار السوق العالمي.”
بهذا المنطق، يتحول القرار الاقتصادي إلى قرارٍ هندسيٍّ قائمٍ على المعادلات والتحليل، لا على المزاج والانفعال.
وهذه هي روح بحوث العمليات، التخصص الدقيق في الهندسة الصناعية، الذي يبحث عن الأفضل الممكن حين يكون الصحيح وحده غير كافٍ.

إنه العلم الذي يعلّمنا كيف نرتّب الحياة.
حين تتعدد الأهداف، ويضيق الوقت، وتتشابك الموارد، يأتي هذا التخصص ليجيب:
كيف نُحقّق أكبر نفعٍ بأقل كلفةٍ وفي أقل وقتٍ ممكن؟
هو علمٌ لا يعيش في الكتب، بل في الميدان،
يُستخدم في قرارات المصانع، وفي التخطيط للطيران، وفي تنظيم المدن،
واليوم صار أداةً رئيسية في صناعة القرار الوطني.

خذوا موسم الحج مثالًا.
ثلاثة ملايين إنسانٍ يتحركون في أيامٍ معدودة،
في قطاراتٍ وحافلاتٍ وممراتٍ ومطاراتٍ وفنادقٍ متقاربة،
كل خطوةٍ تُحسب، وكل دقيقةٍ تُقاس.
لا مجال للعشوائية ولا للاجتهاد اللحظي.
فهناك خلف المشهد منظومةٌ هندسيةٌ دقيقة تُحاكي حركة الحجاج والزمن والطرق،
لتعرف مسبقًا أين سيحدث الزحام ومتى يجب التحويل وأي طريقٍ أنسب.
يُعاد توجيه الفِرَق، وتُوزع الحافلات، وتُضبط حركة القطارات،
بناءً على آلاف البيانات التي تُحلَّل في اللحظة ذاتها.
إنها معادلةٌ مركّبة تتعدد فيها الأهداف:
تخفيف الجهد على الحاج، وضمان أمنه، وتحسين تجربته الروحية،
وكلها تُدار برحمةٍ وإتقانٍ معًا.
ولولا توفيق الله أولًا، ثم إخلاص القائمين على العمل ووعيهم المنهجي،
لما أمكن أن يُدار هذا المشهد المعجز بهذه الدقة كل عام.

هذه هي بحوث العمليات كما تُمارس في الواقع:
فن الموازنة بين المتغيرات للوصول إلى القرار الأمثل،
علمٌ يُترجم رحمة الإنسان إلى نظام، ويحوّل التنظيم إلى عبادة.

وفي الجامعات، تختلف طريقة تدريسه:
في الرياضيات يُدرَّس كمعادلاتٍ ونظريات،
وفي كليات الأعمال يُقدَّم كأداةٍ لاتخاذ القرار،
لكن في الهندسة الصناعية يُدرَّس كفنٍّ للحياة،
نربط فيه المعادلة بالإنسان، والرقم بالغاية، والخطة بالفعل.

ولهذا نقول إن المهندس الصناعي هو المنسق الخفي بين العوالم الثلاثة:
يأخذ من الرياضيات دقة المنطق،
ومن الحاسب سرعة التحليل،
ومن الإدارة بُعد النظر.
لكنه لا يذوب في أيٍّ منهم، بل يمزجهم في منظومةٍ يرى من خلالها الصورة الكاملة،
ويحسب النتائج قبل أن تقع، والآثار قبل أن تُعلن.

ولذلك، حين أنشأت المملكة مراكز دعم القرار والتدخل السريع،
كانت تُؤسس لمنهجٍ هندسيٍّ في الإدارة الحديثة،
تُبنى فيه القرارات على تحليلٍ علميٍّ للأثر قبل التنفيذ.
لم يعد القرار وحيًا يُلقى في لحظة،
بل نموذجًا يُصمَّم، ويُختبر، ويُنفَّذ، ويُراجع لتحسينه.
هكذا تعمل المصانع الكبرى، وهكذا تُدار الدول الكبرى.

وفي كل قطاعٍ من قطاعات الدولة اليوم نجد أثر هذا الفكر:
في الصناعة والدواء، حُددت الأدوية الاستراتيجية لتوطين إنتاجها وفق معادلةٍ دقيقةٍ توازن بين الكفاءة والأمن الصحي.
وفي المالية، تُعد الميزانية كخطةٍ متوازنةٍ تدرس العلاقة بين الإنفاق والعجز والنمو،
فتضع لكل احتمالٍ بديلًا جاهزًا.
وفي الرياضة، رُسمت خطة استضافة كأس العالم 2034 لتوزيع الملاعب والمدن بطريقةٍ تضمن الكفاءة التشغيلية والعائد الاقتصادي معًا.
وفي النقل، تُدار حركة القطارات والموانئ والمطارات بأنظمةٍ ذكيةٍ تتابع البيانات وتُصحّح القرار في اللحظة ذاتها.

كل ذلك لا يعني أن القرارات بلا خطأ،
بل أنها تُصمم لتتعلم من الخطأ،
فالعقل الهندسي لا يطلب الكمال دفعةً واحدة،
بل يُحسّن باستمرارٍ حتى يصل إلى الأمثل.

إن الهندسة الصناعية اليوم ليست تخصصًا مساعدًا كما يظن البعض،
بل عقل الدولة الحديث.
هي التي تجمع بين دقة الحساب ورحابة الفكرة،
وتحوّل الرؤية إلى خطةٍ، والخطة إلى نظامٍ، والنظام إلى أثرٍ مستدام.
ومن خلالها، أصبح القرار الوطني أكثر اتزانًا وواقعية.
نخطط أولًا، ثم ننفذ، ثم نحسّن.
نفكر بالبيانات لا بالعواطف،
ونقيس الأثر لا الحكاية.

تلك هي عقلية السعودية الجديدة:
دولةٌ تُفكّر كما يُفكّر المهندس حين يبني مدينةً فوق أساسٍ من الأرقام والإيمان.
تبدأ بالتخطيط، ثم العمل، ثم التطوير،
وتضع الإنسان غايةً لكل معادلة.

وفي المقال القادم، “هندسة النظام”،
سننتقل من القرار إلى المنظومة،
حيث لا يُكتفى باتخاذ القرار الأمثل،
بل يُبنى نظامٌ يتعلم من ذاته ويصحّح نفسه تلقائيًا.
فحين تتوحد الإرادة مع العلم،
ويُقرَن الإخلاص بالحساب،
تصبح هندسة القرار طريقًا من المعادلة إلى الدولة،
ومن الإنسان إلى الوطن،
ثم من الوطن إلى العالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى