حين تحيا الأرقام لتقيس الحياة،
تتحول الجداول إلى نبض، والمعادلات إلى ملامح إنسان يتحرك داخل النظام.
فالأرقام لا تنطق إلا لمن يفهم لغتها،
فهي لا تقول الحقيقة دائمًا، لكنها لا تكذب أبدًا.
تحتاج من يُصغي لا من يقرأ،
وحين يُصغي إليها المهندس الصناعي، يسمع فيها نبض النظام، ووجدان الإنسان، وصوت الفكرة حين تُتقن.
في عالم الهندسة الصناعية، لا يُنظر إلى الرقم كإحصاءٍ جامد،
بل ككائنٍ حيٍّ له بيئة وسلوك وتاريخ.
فالرقم الذي يُسجَّل في مستشفى لا يُفهم حتى نعرف المريض،
ولا يُفسَّر حتى نرى الممرضة والطبيب والإدارة.
كل رقم وُلد من حركة، وكل حركة تحمل قصة،
وهذا ما يجعل الإحصاء في الهندسة الصناعية فنًّا من الإحسان، لا مجرد علمٍ للقياس.
حين كنت أشرف على مشروعٍ لتحليل أسباب الانتظار الطويل للمرضى في معهد باسكوم بالمر،
أحد أهم مراكز طب العيون في الولايات المتحدة،
كنت أراقب كيف يتعامل الأطباء والممرضون مع الأرقام:
كم مريضًا ينتظر، وكم دقيقة تمر قبل دخوله، وكم ساعة تستغرق العملية.
لكن شيئًا كان ناقصًا.
كانت الأرقام تصف الألم، ولا تعالجه.
يعرفون “كم”، ولا يعرفون “لماذا” و”كيف”.
وحين بدأنا بتطبيق أدوات الإحصاء الصناعي وأساليب التحليل المتقدم،
اكتشف الفريق أن الانتظار لم يكن في الممرات، بل في النظام ذاته.
كان الخلل في ترتيب الخطوات وتوزيع الجهد، لا في كثرة المرضى.
فتحولت الأرقام إلى خريطةٍ حيّةٍ توجّه القرار،
وأصبح الزمن قابلاً للقياس كما يُقاس النبض في الجسد،
حتى انخفضت أوقات الانتظار وتحسّنت التجربة للمريض والطبيب معًا.
فالإحصاء في كلية العلوم يرى الرقم في ذاته،
وفي كلية الأعمال يراه أداةً في تقرير،
أما في الهندسة الصناعية، فالرقم مشروع حياة،
يُخلق من تجربة، ويكبر بالتحسين، ويُسخّر لخدمة الإنسان.
فهو لا يُقرأ، بل يُعاد خلقه في نظامٍ جديد،
ليُصبح أداة تحسينٍ مستمرٍّ، لا ورقةً في تقرير.
الهندسة الصناعية تُحيي الأرقام لأنها ترى فيها الحياة.
هي لا تسأل “كم أنتجنا؟” فقط، بل “كيف أنتجنا؟” و”لمن؟” و”بأي أثر؟”.
وحين تُقاس النتائج، لا تُقاس بالكميات فقط، بل بالاتزان:
اتزان الجهد مع الزمن، والموارد مع الحاجة، والنظام مع الإنسان.
من هنا وُلدت فلسفة هندسة الإحسان.
فهي ليست جودةً رقمية، بل مبدأٌ أخلاقيٌّ في الهندسة الصناعية.
أن تحكم بالأرقام لكن بروح الإنسان،
وأن تكون الدقّة وسيلةً للرحمة لا للصرامة،
وأن تراقب الأداء لا لتُحاسب، بل لتُحسِّن.
ولهذا كان اليابانيون أول من فهموا أن الجودة ليست شعارًا،
بل خلقٌ إداريٌّ يرفع من قيمة العمل وصاحبه.
وحين تبنّوا فلسفة التحسين المستمر،
جعلوا من القياس عادةً يومية، ومن كل انحرافٍ فرصةً للتعلّم،
فكل خط إنتاج عندهم قلبٌ نابضٌ بالتحليل،
وكل قرارٍ يمرّ على مقياسٍ من الرحمة قبل الصرامة.
أما المملكة اليوم، فهي تبني مدرسةً جديدة في فلسفة الجودة.
فهي لا تكرر انضباط الشرق الأعمى،
ولا تغرق في مؤشرات الغرب الباردة،
بل تصنع نموذجها الثالث:
تجعل من الإحصاء لغة قيادة، ومن الجودة ميزان حياة.
في برامج الرؤية، أصبح الإحصاء أداةً لصنع القرار لا مجرد وسيلةٍ للرقابة.
في مركز دعم القرار في الديوان الملكي، تُستخدم النماذج الرياضية لتحليل الخيارات الوطنية،
وتُجرى تجارب افتراضية لاختيار الحلول الأكثر كفاءة بأقل تكلفة.
وفي برنامج التحول الوطني، تُطبّق أساليب تصميم التجارب لتقييم المبادرات قبل تنفيذها،
فتُختبر الفرضيات كما تُختبر المواد في المعامل،
ويُقاس الأثر كما يُقاس النبض في الشريان.
وفي وزارة الصحة، تُحلّل بيانات الطوارئ لتوزيع الموارد بدقةٍ أكبر،
وفي وزارة الموارد البشرية تُبنى التوقعات استنادًا إلى احتمالاتٍ مدروسةٍ تقيس أثر البرامج التدريبية على سوق العمل.
هذه ليست نظريات أكاديمية، بل ممارسة وطنية تعكس وعي الدولة بالهندسة الصناعية كأداة حياة.
فحين تُدار الأنظمة بلغة البيانات،
يصبح القرار تجربةً مدروسة لا ردة فعلٍ متأخرة،
ويصبح الرقم مرآةً للسياسة العامة كما هو للمصنع أو المستشفى.
الإحصاء اليوم في الرؤية السعودية لم يعد وسيلةً للرقابة،
بل أصبح أداةً أخلاقيةً لصنع السياسات.
فحين تتحدث الدولة بلغة الأرقام، فإنها لا تتحدث عن الناس، بل من أجلهم.
الأرقام لا تُستخدم لتبرير القرارات، بل لتصويبها،
ولا تُعرض لتجميل الواقع، بل لتغييره.
إنها لغة الإحسان حين ترتفع من دفتر المحاسب إلى عقل صانع القرار.
وقد لخّص سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان هذا التحول بدقةٍ حين قال:
“نحن نقيس كل شيء بالأرقام، لأن ما لا يُقاس لا يُدار، وما لا يُدار لا يتطور.”
وفي موضع آخر قال:
“طموحنا أن تكون السعودية ضمن أقوى عشر دول في العالم، وهذا ليس حلمًا، بل هدفٌ محسوب بالأرقام.”
بهذا الفهم، تتحول الأرقام إلى ضميرٍ وطنيٍّ حيٍّ،
تُقاس بها جودة القرارات كما تُقاس جودة الحياة،
ويُصبح الإحصاء نفسه شكلاً من أشكال الإحسان،
حين يخدم الإنسان قبل أن يخدم النظام.
وهكذا، تصل الأرقام في رحلتها إلى معناها الأسمى.
فبعد أن قاست الحركة، ووزنت النظام، صارت تقيس ما هو أعمق من ذلك: أثر الإنسان في كل ما يصنع.
عند هذه النقطة، لا تعود الأرقام غايةً، بل وسيلةً لفهم النفس والعقل والجسد،
لتبدأ مرحلة جديدة من الرؤية… حيث تتحول الهندسة من قياس الأداء إلى فهم الإنسان.
ومن هنا تنطلق هندسة الإنسان،
التي تُعيد التوازن بين الفكرة والجسد،
وتحوّل بيئة العمل من معملٍ للآلة إلى بيئةٍ تُصمم حول الإنسان ذاته،
العنصر الأذكى والأجمل في كل نظام.






