المقالات

هندسة الإدارة: من القرار إلى الثقافة

بدأ التحوّل حين تقدّمت الآلة في القرن التاسع عشر أسرع من الفكرة التي تُديرها.
كانت المصانع تصنع بكفاءة، لكنّ القرارات داخلها بلا منهجٍ واضحٍ ينظّم الزمن والموارد والجهد.
ومن تلك اللحظة وُلدت الإدارة الصناعية، أو ما يُعرف اليوم بالهندسة الإدارية،
كجسرٍ يربط بين التقنية والإنسان، ويحوّل العمل من نشاطٍ متكرر إلى نظامٍ متكامل.

في أرض المصنع، أدرك المهندسون أن النجاح لا يُحدَّد بكمية الإنتاج وحدها،
بل بمدى انسجام الإنسان مع الآلة، وتكامل الزمن مع الفكرة،
حيث تتحول بيئة العمل إلى منظومةٍ دقيقةٍ توازن بين الكفاءة والوعي.
ومن هنا تطوّر التفكير الإداري ليصبح علماً يُدرَّس،
لا في قاعات الاقتصاد فقط، بل في معامل الهندسة وأروقة التخطيط.

في كليات الأعمال، تُقدَّم الإدارة على أنها فنّ اتخاذ القرار والقيادة،
وفي أقسام الهندسة الصناعية تُدرَّس على أنها علمٌ يحوّل القرار إلى نموذجٍ قابلٍ للقياس والتحسين.
الفرق بينهما يشبه الفرق بين قائد السفينة، ومصمم نظام الملاحة الذي يجعل الرحلة ممكنة.
الهندسة الإدارية تضع القرار داخل معادلة،
تُحلله، وتقيس أثره، وتُعيد صياغته حتى يصبح جزءًا من نظامٍ لا يتوقف بتغير الأفراد.

تقوم الإدارة الصناعية على مجموعةٍ من الأدوات الدقيقة التي تحوّل الفكر إلى ممارسة:
تحليل سلسلة القيمة يرسم رحلة المنتج منذ المورد حتى العميل، ويكشف أين تتشكل القيمة وأين تتسرب الكفاءة.
بطاقة الأداء المتوازن تربط المؤشرات التشغيلية بالأهداف الإستراتيجية، فتجعل الرؤية اليومية جزءًا من الهدف البعيد.
دراسة الجدوى تختبر القرار قبل تنفيذه،
بينما تُعيد هندسة القيمة ترتيب العلاقة بين الجودة والتكلفة لتصل إلى أفضل توازنٍ ممكن.
هذه الأدوات ليست تقارير رقمية، بل أسلوب تفكيرٍ يجعل المؤسسة قادرةً على التعلم من تجربتها،
ويجعل البيانات لغةً مشتركة بين القائد والميدان.

في المشاريع الوطنية الكبرى، تُمارس هذه الفلسفة في أبهى صورها.
في نيوم، تُبنى الخطط باستخدام المحاكاة لا التمنّي،
وفي أرامكو، تُراجع سلاسل القيمة بدقةٍ هندسيةٍ تضمن كفاءة التشغيل واستدامته،
أما في صندوق الاستثمارات العامة، فالمشروعات العملاقة تُدار كأنظمةٍ مترابطةٍ تخضع للقياس والمراجعة والتحسين المستمر.
بهذا الفكر، أصبحت الإدارة في المملكة منظومةً حيةً تتحرك بالتحليل لا بالانطباع،
وبالعقل الهندسي الذي يرى في كل نتيجة فرصةً جديدة لتطوير النظام بأكمله.

هذا التحول في الفهم وجد صدى واضحًا في فلسفة القيادة الوطنية.
حين قال سموّ ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في القمة الثانية لمبادرة مستقبل الاستثمار عام 2018:

“الوزير السابق أو القيادي السابق، ما نسمح له يروح ويجلس في بيته أو في مزرعته، نحطه في أصغر مكتب في الصندوق، ويصير تحت التقييم، وإذا قدم قيمة نستفيد منه، وإذا ما قدم قيمة، خيره في عدم إيذاء الناس.”

عبارة لخصت جوهر الهندسة الإدارية الحديثة.
فهي تؤكد أن المنصب لم يعد غاية، بل وظيفة أداء داخل نظامٍ يقيس القيمة لا الألقاب.
القيادة هنا ليست سلطة، بل قدرةٌ على تقديم أثرٍ ملموسٍ في منظومةٍ تعمل وفق مقاييس دقيقةٍ ومساءلةٍ عادلة.

من هذا المبدأ انطلقت الحوكمة الحديثة في المملكة.
فحين تُربط الميزانية بنتائجها، يتجسد مفهوم هندسة القيمة، وحين تُنشأ وحدات الأداء داخل الوزارات، تعمل بطاقة الأداء المتوازن في صورتها المؤسسية.
هكذا صارت الحوكمة ممارسةً واعيةً لا رقابةً متأخرة، وانتقل مفهوم الإدارة من التنفيذ إلى البناء،
ومن إصدار التعليمات إلى تصميم الأنظمة التي تمنع الخطأ قبل وقوعه.

الإدارة الصناعية اليوم ليست تخصصًا أكاديميًا فحسب،
بل مرحلة وعيٍ متقدمة تجمع بين الهندسة، والاقتصاد، والإدارة في لغةٍ واحدة.
فالمهندس حين يدرسها يتقن منطق الجدوى والتحليل المالي، وخريج الأعمال يتعلم بها دقة النظم التشغيلية،
والمتخصص في العلوم الاجتماعية يجد فيها طريقًا لفهم السلوك داخل المنظومات الكبيرة.
لهذا أصبحت الإدارة الصناعية أحد أكثر تخصصات الدراسات العليا طلبًا في الجامعات العالمية،
لأنها تمنح القدرة على فهم العلاقات الخفية بين القرار والنتيجة،
وتصميم الأنظمة التي تبقى فعّالة مهما تغيّر من يديرها.

إن جوهر هذا العلم أنه يحوّل المؤسسات إلى كائناتٍ تتعلّم من ذاتها.
فيها يصبح القياس عادةً يومية، والتحسين سلوكًا متجددًا، والمساءلة جزءًا من النمو الطبيعي للعمل.
وحين يصل الفكر الإداري إلى هذه الدرجة من الوعي،
تتحول الإدارة إلى ثقافةٍ يعيشها الجميع،
ويصبح الإتقان لغةً وطنيةً لا شعارًا إداريًا.

ومن هنا تبدأ المرحلة التالية في السلسلة:
هندسة الصناعة؛ من الإدارة إلى الإنتاج،
حيث تتحول الرؤية إلى فعل،
وتخرج الفكرة من الورق إلى خط الإنتاج،
ويُقاس التقدّم بقدرة الوطن على الإتقان لا بكمّ ما يُنفق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى