المقالات

القدوات الورقية… والعملة المزيفة

كان الإعلان يومًا ما يُكتب في الصحف بوقار الكلمة، أو يُبث في التلفاز على هيئة مقطع قصير يحمل رسالة واضحة ومعنى مباشر. وكان المتلقي مطمئنًا أن ما يراه يخضع لمعايير تحرص على الذوق العام، وتحمي المجتمع من الابتذال. لكن مع موجة السوشيال ميديا، تبدلت الموازين؛ أصبح المؤثر العابر قناةً إعلامية قائمة بذاته، والهاتف المحمول نافذة تسحب البساط من المؤسسات الكبرى، وتحوّل الإعلان من رسالة إلى حكاية شخصية تُعرض على الملأ.

في البداية، كان الأمر يبدو عفويًا: تجربة في مطعم، رأي في منتج، مشاركة للحياة اليومية. لكن سرعان ما تحولت العفوية إلى صناعة، والبساطة إلى تجارة، وصارت الحياة الخاصة رأس مالٍ يُباع ويُشترى. البيوت والسفر والهدايا والملابس تحولت إلى عروض دعائية، ومع المنافسة المحمومة ظهر جيل جديد لا يملك ما يقدمه سوى الصخب، فاحترف الاستعراض والابتذال، واستعان بمظاهر وسلوكيات لا تمت لقيم المجتمع بصلة.

شيئًا فشيئًا صار الإعلان أقرب إلى عرض مسرحي رخيص: ملابس فاقعة، حركات مفتعلة، مشاهد لا علاقة لها بجوهر المنتج، حتى غاب الإعلان وحضرت الضوضاء. الإعلام التقليدي بدأ يتساءل، والجهات الرسمية وضعت الضوابط، ثم جاءت العقوبات لتشمل المؤثر والمعلن والمعلن عنه، فأدرك السوق أن الفوضى انتهى زمنها، وأن عصر التنظيم قد بدأ.

لكن وسط هذا التحول، برزت صورة تختصر المشهد كله:
لقد وُلدت عندنا عملات نقدية جديدة إلى جانب الريال السعودي. عملات يستخدمها المتسلقون الشحاتون، لكنها هذه المرة ترتدي ربطة عنق. صورة سنابية تعادل وجبة مجانية، فيديو عشر ثوانٍ يساوي طلبية بلا مقابل، فيديو دقيقة يفتح باب إقامة فندقية، وبوست إنستغرامي أو مقطع تيك توك يُعامل كأنه ورقة نقدية من فئة الخمسمائة. غير أن الحقيقة تبقى واضحة: المصرف الذي نتعامل معه لا يقبل هذه العملات، ولا يقبل إلا الريال السعودي.

إنها ليست مجرد مفارقة ساخرة، بل تشخيص لمرض ثقافي: لقد صنعنا قدوات من ورق. أشخاص مأجورون لإيصال رسائل مدفوعة، لا تمت لهم بصلة، يسافرون بدعوات ممولة، يتناولون وجبات مرعية، يطلون بمكياج وملابس مدفوعة. وحتى في لحظات مرضهم وامتحانات ضعفهم يظهرون بكامل زينتهم، كأن الإنسان قد اختفى وراء قناع مصطنع. إنها خدعة كبيرة، لكنها سرعان ما تنكشف أمام عقل ناقد أو تجربة واقعية.

والمفارقة الأعمق أن هذه القدوات الورقية حلت محل القدوات الحقيقية. ففي مقابل هذا الضجيج، وقف جيلٌ من الرواد كأحمد الشقيري، قدّموا محتوى متينًا، فكانت الشهرة نتيجة لا هدفًا، وكانت الرسالة هي الأصل لا المظهر. أولئك بنوا مكتبة فكرية وثقافية باقية، بينما القدوات الورقية لا تترك وراءها إلا رمادًا يذروه الريح.

واليوم، نقف أمام لحظة فاصلة. كما أغلقت الصحف الورقية أبوابها أمام الإعلام الرقمي، سيغلق الذكاء الاصطناعي أبواب الوهم أمام اقتصاد المؤثرين. لن يُسأل المرء: كيف تبدو صورتك؟ بل: ما فكرتك؟ لن يكون المعيار شكل المقطع ولا جمالية الإخراج، بل عمق الرؤية وأصالة التجربة. الذكاء الاصطناعي سيكشف الزيف، ويهدم اقتصاد الوهم، ويعيد القيمة إلى من يملك فكرًا ورؤية ومهارة.

أيها الجيل الجديد، فوقوا من سكرة المشاهد المصطنعة. هؤلاء ليسوا قدوات، بل مأجورون يبيعون الوهم بلباس مزيف. لا يشغلنكم ضجيجهم عن جوهر حياتكم، ولا يلهينكم استعراضهم عن بناء مهاراتكم. أنتم أبناء عصر هو الأعظم في تاريخ الدول المعاصرة، عصر تتسارع فيه التحولات الاقتصادية والتقنية، وتتشكل فيه فرص غير مسبوقة. فاجعلوا وقتكم لبناء عقولكم، وتثبيت قيمكم، وصناعة مستقبلكم. فالوهم لا يطعم خبزًا، أما القيمة الحقيقية فهي التي تبني الإنسان، وتبقى أثرًا لا يزول.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى