التاريخ ليس صفحة تُنشر ثم تُطوى في ضباب القدم، ولا خطًّا متوهَّمًا ترسمه حركات الزمان بين حقبة وأخرى. بل إن التاريخ، أحببنا أم كرهنا، هو المختبر الحقيقي لمدى صواب الفعل البشري وصدق اختياراته.
ومع ذلك، ما زالت قراءتنا للتاريخ العربي يغلب عليها الطابع الوجداني والعاطفي، فنحن نميل إلى تفسير الماضي من منظور ديني أو عاطفي ونُسقط عليه مشاعر الحاضر، دون أن نتعامل معه بوصفه مادة علمية قابلة للفحص والتحليل. هكذا يتحول التاريخ إلى خطاب عاطفي لا يفسر القوانين العميقة التي تحكم تطور المجتمعات ولا يكشف ديناميات السلطة والاقتصاد والثقافة التي صنعت مسار الأمم.
وهنا تبرز قيمة المؤرخ المحترف الذي لا يرضى بالسطح ولا يقف عند حدود السرد التبسيطي، بل يمتلك عينًا مدرّبة ترى ما وراء الوقائع وتلتقط الخيوط الخفية التي تربط الماضي بالحاضر. بالنسبة له التاريخ ليس مجرد أخبار متراكمة، بل شبكة معقدة من العوامل المتداخلة، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية. ولذلك فالمؤرخ الحقيقي ليس راوياً للأحداث فحسب، بل ناقد ومحلل قادر على تفكيكها وإعادة تركيبها بما يكشف عمقها وسياقها.
إن إصرارنا على القراءة السطحية جعل خطابنا التاريخي أسير التكرار والوعظية، فنحن نعيد ما دوّنه السابقون دون مساءلة، ونتداول الروايات كما وصلتنا من غير أن نخضعها للتحقيق أو المقارنة. والنتيجة أن التاريخ العربي ظل في الذاكرة الجمعية أقرب إلى الحكاية العاطفية منه إلى العلم الحي الذي يمنحنا أدوات للفهم والتغيير.
الحاجة اليوم ملحة إلى قراءة جديدة تتحرر من إسقاطات الوجدان وتستند إلى الوثائق والمصادر وتستفيد من المناهج الحديثة في دراسة التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والمقارن. فبهذه الأدوات يمكننا أن نعيد رسم صورة الماضي بوعي أشمل ونفهم كيف تفاعلت القوى والعوامل عبر القرون، وكيف يمكن للحاضر أن يضيء بأسئلة جديدة تساعدنا على بناء مستقبل أكثر اتزانًا.
التاريخ إذن ليس ماضيًا بعيدًا نتغنى به، بل حاضرٌ يعيد تشكيل وعينا، ومستقبلٌ ينتظر أن نتعلم من تجارب أسلافنا. من يقرأه بوجدان فقط يكرر الأخطاء، ومن يقرأه بالمنهج يصنع الحضارة.
ا.د عايض محمد الزهراني



