المقال الثامن في سلسلة هندسة الرؤية
كانت الصناعة في بداياتها نارًا وحديدًا، تدور التروس تحت أصوات المطارق، ويتصاعد الدخان من المداخن العالية.
وفي عام 1913، قدّم هنري فورد خط التجميع المتحرك، فاختصر زمن إنتاج السيارة من اثنتي عشرة ساعة إلى ساعتين.
من تلك اللحظة، لم تعد الصناعة مجرّد حرفةٍ تُمارس بالقوة، بل أصبحت علمًا يقوم على التفكير المنظومي والتنسيق بين الإنسان والآلة والزمن.
ومن رحم تلك التحولات، وُلدت هندسة التصنيع كتخصصٍ يجمع بين دقة التقنية ومنهج الإدارة، ويبحث عن الطريقة الأمثل للإنتاج قبل التفكير في المنتج ذاته.
هذا التخصص لا يتعامل مع الآلة كجسمٍ منفصل، بل كجزءٍ من منظومةٍ كاملةٍ تتحرك بانسجامٍ بين الموارد والمعلومات والطاقة والعنصر البشري.
يتعلم المهندس كيف يُخطط المصنع لتتدفق المواد بسلاسةٍ من المدخل إلى المخرج،
وكيف تُوزّع مواقع العمل بحيث تتحقق الكفاءة دون ازدحامٍ أو هدرٍ في الجهد والزمن.
يحلل تدفق العمليات، ويختبر الخطط بالنمذجة الرقمية، ويُقيم الأداء وفق معاييرٍ كميةٍ دقيقة.
ومع كل جولةٍ من الإنتاج، يكتسب المصنع وعيًا جديدًا، كأنه عقلٌ يتعلم من تجربته ويطوّر ذاته باستمرار.
ومع الثورة الصناعية الرابعة، أصبحت الصناعة كائنًا رقميًا يتنفس البيانات.
الآلات تتصل ببعضها عبر شبكاتٍ ذكيةٍ من الحساسات،
والنموذج الرقمي الذي يحاكي المصنع الحقيقي يمكّن المهندس من اختبار الخطط في بيئةٍ افتراضيةٍ قبل تنفيذها الفعلي.
تعتمد أنظمة التحليل الحديثة على بياناتٍ آنيةٍ لاكتشاف الأعطال قبل وقوعها،
وتعيد توزيع الموارد تلقائيًا لتحقيق أعلى كفاءةٍ تشغيلية.
تستخدم المصانع المتقدمة خوارزميات التعلم الآلي لتوقّع الأعطال وتحسين القرارات اللحظية،
حتى أصبح المصنع الحديث بيئةً تفكر وتتعلم، وتطوّر أداءها كما يفعل العقل حين يكتسب الخبرة.
ويتقاطع هذا المجال مع تخصصاتٍ هندسيةٍ أخرى تُكمل رؤيته.
الهندسة الميكانيكية تهتم بتصميم المكونات،
وهندسة الإنتاج تُعنى بتتابع العمليات الفنية،
أما هندسة التصنيع فتجمع كل ذلك في نظامٍ واحدٍ يربط بين التصميم والتشغيل والتحليل.
تتعامل مع المصنع ككائنٍ متكاملٍ يعيش على التناغم بين الفكرة والتطبيق،
حيث تتحول القرارات إلى إجراءاتٍ قابلةٍ للقياس،
ويصبح كل تفصيلٍ صغيرٍ في العمل جزءًا من بناءٍ كبيرٍ يحافظ على توازن الأداء واستدامته.
في التجارب العالمية، كانت ألمانيا واليابان والصين والولايات المتحدة الأعمدة الكبرى للعصر الصناعي الحديث.
الألمان جعلوا الدقة فلسفةً في إدارة الوقت والموارد،
واليابانيون أسسوا مبدأ التحسين المستمر في كل خطوةٍ من خطوات العمل،
والصينيون جمعوا بين سرعة التنفيذ ومرونة التعلم،
أما الأمريكيون فصاغوا منظومة البحث والابتكار التي جعلت الصناعة تتطور عبر المعرفة لا عبر التكرار.
هذه النماذج المختلفة توصلت إلى القاعدة ذاتها:
أن التفوق الصناعي لا يُقاس بعدد المصانع، بل بنضج الفكر الذي يصممها ويطورها ويجعلها تتعلم ذاتيًا.
وفي المملكة، تجسدت هذه القيم ضمن رؤية 2030،
التي جعلت التصنيع محورًا للتنويع الاقتصادي وبناء القدرات الوطنية.
ويبرز في مقدمة هذه الجهود برنامج تطوير الصناعة الوطنية والخدمات اللوجستية (ندلب)،
الذي يمثل الإطار التنفيذي لتطبيق فكر هندسة التصنيع على مستوى الدولة.
البرنامج لا ينشئ المصانع فحسب، بل يعيد تصميم المنظومة الصناعية من جذورها:
ربط سلاسل الإمداد، توطين التقنية، تعزيز البحث والابتكار، وتكامل القطاعات الإنتاجية في شبكةٍ واحدة.
من خلاله تتشكل هوية صناعية سعودية تعتمد على الكفاءة والبيانات والتحليل المستمر،
وتحوّل الصناعة إلى منظومةٍ واعيةٍ تدير مواردها وتبني قراراتها بمعاييرٍ دقيقةٍ ومستدامة.
وهنا يبرز دور الجامعات الوطنية في تأهيل المهندسين القادرين على قيادة هذا التحول.
فأقسام الهندسة الصناعية تمثل البنية الأكاديمية التي تُخرّج العقول القادرة على ترجمة الرؤية إلى أنظمةٍ تشغيليةٍ واقعية.
لكن اكتمال هذه المنظومة يتطلب تطوير معامل بحثٍ متقدمةٍ في النمذجة الرقمية،
والأنظمة الذكية، وتحليل البيانات الصناعية، لتكون مراكز تفكيرٍ وصناعةٍ للمعرفة،
ولتصبح نواةً حقيقيةً لشراكاتٍ بحثيةٍ بين الجامعات والمصانع الوطنية.
كما يُعد الابتعاث إلى الجامعات العالمية ذات الخبرة في هندسة التصنيع خطوةً أساسيةً لنقل المعرفة،
بينما يُسهم استقطاب الخبرات العالمية إلى الجامعات السعودية في تطوير المناهج وربطها بالتوجهات الصناعية المستقبلية.
ويُنتظر أن تكون المراكز البحثية مستقبلاً أرضًا خصبةً للخصخصة الصناعية،
حين تُفتح أمام القطاع الخاص فرص الاستثمار في المشاريع البحثية والنماذج التجريبية،
فيشارك في تطوير الحلول الوطنية ويستفيد من نتائجها قبل وصولها إلى السوق.
بهذا التكامل بين التعليم والصناعة والقطاع الخاص،
تتحول المعامل من فصولٍ مغلقة إلى منصاتٍ وطنيةٍ للابتكار،
وتصبح الجامعات مراكز تطويرٍ حقيقية، والمصانع مختبراتٍ للتطبيق العملي،
فتعمل جميعها في منظومةٍ واحدةٍ تبني اقتصادًا منتجًا يقوم على الوعي والإتقان والمعرفة.
الصناعة الحديثة تُقاس اليوم بقدرتها على توليد المعرفة قبل إنتاج السلع.
هي منظومة تتطور باستمرار، وتتعلم من تجربتها،
وتحوّل كل إنجازٍ إلى خطوةٍ نحو مستوىٍ أعلى من الإتقان.
إنها الوعي الذي يجعل الاقتصاد يتحرك بثقةٍ وينمو بثباتٍ ويدوم بتجددٍ لا يتوقف.
ومن هنا تبدأ الخطوة التالية في السلسلة،
حين يغادر المنتج أرض المصنع ليبدأ رحلته عبر سلاسل الإمداد،
رحلةٍ تربط الموانئ بالمستودعات والأسواق بالموارد،
وتفتح لنا فصلًا جديدًا في هندسة اللوجستيات،
العلم الذي ينظم حركة الاقتصاد كما يُنظم الجسد نبضه،
ليبقى الوطن في مسارٍ من الإنتاج المتوازن والتنمية المستمرة.







د. عبدالقادر شكرا على المقال الرائع والجميل ، مبدع