المقالات

عقلنة التحول التعليمي في السعودية… من منطق الإدارة إلى وعي التربية

هل يمكن لمنظومةٍ تعليميةٍ أن تتغيّر أسرع مما تفكّر؟

سؤالٌ يلخّص المشهد السعودي اليوم، حيث يعيش التعليم واحدةً من أكثر مراحله حيويةً وحساسية. فقد تبدّلت الهياكل، وتحوّلت الصلاحيات، وأُعيد توزيع الأدوار في مشروعٍ وطنيٍّ واسعٍ يسعى إلى رفع الكفاءة وتعظيم الأثر، في انسجامٍ مع مسار التحول الشامل الذي تشهده المملكة.

ومع أنّ هذا الحراك يعكس طموحًا صادقًا نحو التطوير، فإن سرعته اللافتة تطرح تساؤلاتٍ عميقة حول الكيفية التي يُدار بها التحول، واتجاهه، والمعايير التي يُقاس بها النجاح.

لقد برز في المشهد عقلٌ إداريٌّ جديد يسعى إلى إحكام التنظيم وضبط الأداء، غير أنّ حضوره ما زال بحاجة إلى أن يتكامل مع منطق التربية وفهم الإنسان. فالتعليم لا يُدار بالسرعة، بل يُقاد بالوعي؛ ولا يقاس بعدد الإجراءات، بل بعمق الأثر في المتعلّم ونوعية الخبرة التي يكتسبها.

لقد منحت هذه المقاربة النظام انتظامًا إداريًا واضحًا، لكنها في المقابل قلّصت من مساحة التفكير التربوي داخل المنظومة. فتضاءل حضور الحوار المهني، واتّسع منطق التنفيذ السريع على حساب الفهم العميق، حتى أصبح الأداء غايةً قائمةً بذاتها لا وسيلةً للتعلّم والتحسين.

وليس في ذلك قصورٌ في الميدان أو منسوبيه، بل انعكاسٌ لتحوّلٍ في المرجعية التي تنظّم العمل التربوي بمنطقٍ أدائيٍّ يغلب عليه الطابع الكمي أكثر من الوعي النوعي. فعندما تتقدّم اللوائح على القيم، تتراجع المرونة، وتضعف الحيوية التربوية، ويغدو الإنجاز أقل عمقًا من غايته الأصلية.

ومع ذلك، لا يمكن قراءة هذا التحول بمعزل عن المشهد الوطني الأوسع؛ فالمملكة تعيد بناء منظومتها الإدارية والاقتصادية ضمن رؤيةٍ شاملةٍ تهدف إلى رفع الكفاءة وتعظيم الأثر في كل القطاعات. غير أن نقل هذا المنطق الإداري إلى التعليم يحتاج إلى مواءمةٍ دقيقة تضمن بقاء البعد التربوي في صميم القرار الإداري، حتى لا تتحول الكفاءة إلى غايةٍ منفصلةٍ عن التعلم.

فالتعليم بطبيعته عملٌ تراكميٌّ لا يُقاس بالسرعة، بل بنضج التجربة وثراء الخبرة. والنظام التعليمي السعودي نشأ في بيئةٍ مركزيةٍ تسعى إلى تحقيق الاتساق الوطني بين مناطقه، لكن أي تقليصٍ أو دمجٍ في المستويات الإدارية لا يكتسب فعاليته إلا حين يصاحبه تعزيزٌ للتنوع المهني ودعمٌ للابتكار المحلي داخل الإطار الموحد.

فالقضية ليست في عدد المستويات الإدارية، بل في قدرتها على توليد الأفكار وتمكين المدرسة من التفكير المستقل ضمن منظومةٍ تتعلّم من ذاتها.

وهنا تبرز فكرة «عقلنة التحول»؛ لا باعتبارها تباطؤًا في الحركة، بل وعيًا في الاتجاه. فالكفاءة لا تكتمل إلا حين ترتبط بالفهم، والمؤشر لا قيمة له إن لم يتحول إلى معنى تربوي يقود للتحسين. الإدارة الواعية لا تُقاس بما تُنجزه من إجراءات، بل بما تُحدثه من وعي. وهي حين تُمارس التفكير، تحفظ للتربية جوهرها الإنساني، وتحوّل الأداء من فعلٍ روتيني إلى عملية تعلّمٍ مستمرة.

من هذا المنظور، تبدو إعادة هيكلة منظومة التعليم خطوةً تنظيميةً تمثل اختبارًا لنضج التحول ذاته. فقد اتجهت وزارة التعليم، ضمن مسار رفع الكفاءة وترشيد الإنفاق، إلى تركيز الإدارة التعليمية وتقليص المستويات الوسيطة. وهو توجهٌ مفهوم من حيث المبدأ، إذا ما صاحبه إحلال بدائل تنظيمية وتقنية تضمن استمرار الدعم والتمكين في الميدان.

وتكمن فاعلية هذه البدائل في قدرتها على تلبية احتياجات منظومةٍ تمتد على مساحةٍ واسعةٍ ومتنوعة الخصائص — وهو تحدٍّ طبيعي في أي عملية تحول بهذا الحجم.

فإن تحقق التوازن بين الضبط والتمكين، فسيكون التحول أكثر وعيًا ونضجًا. أما إذا اقتصر على الشكل دون المضمون، فسيظل مشروعًا للتنفيذ لا للتفكير، وهو ما تسعى «العقلنة» إلى تجاوزه بروحٍ نقديةٍ بنّاءةٍ ترى في التحول رحلةً للتعلّم المستمر لا سلسلةً من القرارات السريعة.

إن عقلنة التحول لا تعني الإبطاء، بل الفهم؛ ولا تنادي بالتراجع، بل بالتبصّر. هي التي تجعل من الكفاءة وسيلةً للفهم لا غايةً في ذاتها، وتعيد للتعليم توازنه بين منطق الإدارة وفلسفة التربية. فعندما يصبح الوعي جزءًا من عملية التطوير، يحتفظ التعليم بروحه وسط زخم الأرقام، ويتحوّل المؤشر من أداةٍ للمحاسبة إلى لغةٍ للفهم.

ذلك هو جوهر التحول الواعي الذي يُعيد للتعليم معناه الإنساني، وللإدارة بعدها الفكري، وللمدرسة دورها بوصفها بيئةً تفكّر قبل أن تُنفّذ. فحين تتسع دوائر الوعي داخل المنظومة، يصبح القرار التربوي أكثر فهمًا للواقع، وأكثر استجابةً لحاجاته، وأقرب إلى الإنسان الذي وُجد التعليم من أجله.

وحين تتكامل الإدارة الواعية مع الفعل التربوي المسؤول، يصبح التحول السعودي نموذجًا في عقلنة التحول، حيث تتقدّم الكفاءة بخطى الوعي، ويتجدد التعليم بمعناه الإنساني قبل مظاهره الإجرائية.

أ.د. أحمد بن محمد الزائدي

مدير إدارة التعليم بمنطقة مكة المكرمة سابقًا

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. قل أن نقرأ مقالة كهذه مابين دقتها ولغتها وسبكها بل وأدبيتها وسمو الفكر الذي فيها ، لا يستطيع كتابتها إلا ذو خبرة وقدرة وتجربة ودقة رؤية .. ولاغرو فكاتبها الأستاذ الدكتور أحمد الزايدي التربوي والأكاديمي والمدير العام لتعليم منطقة !
    وأنا أقرأ سلسة مقالاته هذه تتكلم أمنية من داخلي .. ليت هذه المقالات تدرس في الجامعات فكم فيها من الفكر والنظر والحكمة ( العقلنة)

اترك رداً على أحمد بن مهنا الصحفي - تربوي متقاعد إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى