يقول صديقي فلان: اتصل بي «حمدتو» في وقتٍ متأخرٍ من الليل وقال:
«صحصح، اليوم جايب لك معلومة أتحدّاك إنك تعرفها من قبل، أو يمكن معظم الناس ما يعرفونها».
قلت له مازحًا: «طلعت القمر والتقيت فيه بشر؟»
قال: «أي بشر! أنا ما دام معايا القمر، مالي ومال النجوم»، وقام يغنيها.
قلت له: «يا أخي صوتك نشاز، وأيّ قمر معك؟ أنت يا دوب نجمة، وكثير عليك!»
فردّ: «آه، أنا كثير عليّ النجمة؟ طيب تصدق؟ أنا دخلت العسكرية وأنا صغير، وتقاعدت وعلى كتفي ثلاث نجمات، ما هي نجمة! وتراني ما يصك راسي إلا العلالي»، وقام يدندن:
يا مدوّر الهيّن ترى الكايد أحلى
واسأل مغني كايدات الطروقي
قلت له: «باين إنك فالح من يومك!»
قال: «تتريق يعني؟ طيب، أنا دخلت العسكرية جندي، ثابرت واجتهدت ووصلت نقيب بعرق جبيني، لا واسطة ولا غيره، ما هو زي بعض الناس».
قلت له: «إيش تقصد؟ أنا ما لي في الوظائف! من يومي وأنا عصامي، ابتديت ببيع البليلة وأسهر على قرشي كل يوم وليلة، والحمد لله ربنا أكرمنا، وانطلقت في الأعمال التجارية. صحيح على قد حالي، لكن كافي نفسي وأسرتي، والحمد لله».
قلت: «طيب المهم، هات الخبر اللي عندك».
قال: «تعرف معنى (مضيّع خميسه)؟»
قلت: «لا يا أبو ثلاث نجمات، ما أعرف».
قال: «يا خسارة! وتقول إنك جداوي؟ طيب هات العلم…»
قال: «كان أهل جدة معظمهم من البحارة، وكذلك يجيدون البناء، وبالذات بالحجر المنقبي، إضافةً إلى كثير من الحرفيات الأخرى. فكانوا يعتمدون على أنفسهم في تغطية احتياجاتهم. وكان البحارة والبناؤون بالذات يعملون ستة أيام في الأسبوع، والجمعة راحة. ويوم الخميس يأتي رئيس العمال ويسلّم كل واحد أجرته ويناديهم بالاسم.
ولما ينادي واحدًا وما يرد، وهذا نادر، يبحثون عنه، فيجدونه لم يتحرك من البيت أو تحت شجرة يبرد من الحرّ. فيسألونه: (وينك؟ ما جيت تستلم المعلوم؟)، فيردّ: (والله تصدقوا؟ نسيت يا جماعة!). فيقولون له مداعبين: (هو في أحد يضيّع خميسه يا رجل!).
ومن يومها صارت تُقال لمن ينسى أهم المواعيد أو المناسبات التي قد تكون سببًا في رُقيّه وسعادته».
انتهى حديث صديقي فلان و«حمدتو»، وعلى ذكر البنّائين والحجر المنقبي، تداعت الخواطر في ذهني عن كيف كان أهالي جدة يعتمدون على هذا الحجر في البناء، وتذكّرت أغنية «يا سارية خبريني» وهل لها علاقة بذلك، خصوصًا عند المقطع الذي يقول:
وفي المنقبة صدنا قمري
وشويناه وأكلناه بريشه
طبعًا الشوي مقبول، لكن يأكلونه بريشه؟ هذه شوية ماهي مهضومة!
المهم، اتصلت على أخي وصديقي محمد عبده وقلت له ممازحًا:
«أنت ممن غنّى (وفي المنقبة صدنا قمري)… هل فعلًا صدت قمري وشويته وأكلته بريشه في المنقبة؟»
ضحك وقال: «أهو خيال كاتب، ينسج كمال الإعجاب بالقماري، ومن طرفٍ خفي يشير بذلك إلى المحبوب مهما كانت صفاته».
قلت: «طيب وماذا عن المنقبة؟»
قال: «هذه حسب علمي منطقة في الرويس، وهي مكامن حجر بحري قوي، غالبًا ممتدة من شعاب البحر الأحمر، فقط تكنّ فيها القماري، وهي طيور جميلة التغريد رقيقة الشكل».
شكرت أخي محمد، وبينما أنهينا الحديث سمعته يسلطن:
يا صحبتي يا سمّاري يا أهل الهوى
محلا الهوى في جوّ ليلة قماري
كان القمري ولا يزال يُلهم الشعراء، فينسجون حوله رقيق الكلام. ولا أدري، هل الإلهام ذاك من سجعه وترداد تغريده بنغمة واحدة؟ أم من جمال هيئته ورقة جسمه؟
ومن يذكر عندما كانت أغنية:
بالله يا دولا القماري في القديرة والرقاب
لي معاكم ولفّ غايب، ذقت في غيابه العذاب
تتردد في المجالس وفي مسجّل السيارة وأنت رايح للشفاء أو لِلِيّة أو المثناة؟
الآن، عندما تسمعها، تطوف في بالك تلك الديار، ولا شكّ أنها تتجلّى أمام عينيك وكأنها توأمك، لما كان هناك من ذكريات لا أحلى ولا أجمل.
القديرة والرقاب مناطق جميلة في الطائف، تتكاثر بها القماري، وبالذات عندما كان الطائف الجميل المأنوس لا تغيب عنه الأمطار، والخُضرة تكسو أرضه. فلا تكاد ترى قطعة منه لا تزينها المزارع، سواء الطبيعية أم التي أبدعها الإنسان.
بل وأينما ذهبت، فالخُضرة والماء يتبعانك قبل أن تبحث عنهما، وكأنكما في ماراثون الطبيعة الذي لا يتوقف.
وقد قال الشعراء الكثير في القمري، ولعلنا نختم بما أبدعه حسين المحضار حين قال:
أشكي لمن منك ومن اللي تفعله أشكي لمن
كم صحت في أذنك وكم راسي توطى لك ودن
ذا الحب له أسلوب لو تدري وفن
يعرفه كل فنان
يا قمري البان المولع ما سكن يا قمري البان
يا من كمل حسنك وفعلك دوب لي ما هو حسن
يا من غمض جفنك جفوني للكرى بعدك جفن
أمسي سمير النجم من طول الشجن
وانته بلا أشجان
يا قمري البان المولع ما سكن يا قمري البان.



