لم يكن فوز زهران ممداني برئاسة بلدية نيويورك مجرّد مفاجأة انتخابية ، بل لحظة رمزية تهزّ البنية العميقة للسياسة والثقافة في الغرب. فأن تتسلّم قيادةَ العاصمة الاقتصادية للعالم شخصيةٌ تنتمي إلى الهامش الثقافي والعرقي، يعني أن التاريخ بدأ يعيد توزيع كلمته، وأن المركز لم يعد بمنأى عن ارتدادات صوته الآخر، ذلك الصوت الذي حاول طويلاً تهميشه وإسكاته.
زهران ليس فقط نجلَ اثنين من رموز الفكر والفن العالميين ، بل هو ثمرة لقاء بين الوعي والذاكرة ، بين الصورة والتحليل .
فوالدته المخرجة الهندية ميرا ناير جعلت من السينما فعلا للمقاومة الجمالية ضد النسيان ، بينما كرّس والده ، المفكّر الكبير محمود ممداني، حياته لتفكيك بنية الإمبراطورية ونقد الاستعمار في أشكاله المتحوّلة.
وفي هذا البيت الذي جمع بين الفن والفكر، بين الكاميرا والكتاب، تَشَكَّل وعي زهران السياسي : وعي يرى العدالة امتدادا للجمال، ويعتبر السياسة فعلا أخلاقيا قبل أن تكون سلطة.
إن رمزية صعود ممداني الابن لا تُفهم إلا بالعودة إلى إرث والده ، أحد أبرز العقول في حقل دراسات ما بعد الاستعمار.
فمحمود ممداني، المولود عام 1946 في بومباي والناشئ في أوغندا، عاش التجربة الاستعمارية بكل تناقضاتها. تَشَرَّب وعيه النقدي بين هارفارد ودار السلام ، بين المنفى والجامعة ، ليصوغ مشروعا فكريا يرى في ” الاستقلال السياسي ” مجرد قشرةٍ تخفي استمرار البنية الاستعمارية داخل الدول الإفريقية نفسها.
في كتابه المرجعي ” المواطن والتابع ” (1996)، كشف ممداني أن الاستعمار لم يرحل حقا ، بل غيّر وجهه.
فقد ورّث للأنظمة الوطنية تمييزا خطيرا بين ” مواطن ” في المدينة يخضع للقانون ، و ” تابع ” في الريف يخضع للعُرف ، وهو تمييز جعل العنف جزءا من البنية العادية للدولة الحديثة . ثم في ” عندما يصبح الضحايا قتلة ” (2001)، أعاد تعريف الإبادة في رواندا بوصفها ثمرة للحداثة الكولونيالية نفسها ، لا نقيضا لها، موضحا أن التصنيفات العرقية لم تكن إلا اختراعا استعماريا لضبط المجتمع وإدامة السيطرة.
وبعد أحداث 11 سبتمبر، وسّع ممداني نقده ليشمل الخطاب الإمبريالي الأمريكي في كتابه ” مسلم جيد، مسلم سيئ ” (2004) ، حيث فكّك الوهم القائل بأن الإرهاب صراع ثقافي أو ديني، مبيّنا أنه في جوهره صناعة سياسية ولّدتْها الحرب الباردة ، حين استخدمت واشنطن الإسلام الجهادي سلاحا ثم جرّمته لاحقا باسم ” الحرب على الإرهاب ” . تلك هي عبقرية فكر ممداني : أنه لا يرى العنف كحادثٍ طارئ، بل كبنية متأصلة في نظام الهيمنة الحديث نفسه.
بهذا المعنى، لا يمكن قراءة فوز زهران ممداني إلا كامتداد لذلك الوعي النقدي الذي انتقل من النص إلى الفعل، من التحليل إلى الممارسة.
إن تولّي نجل مفكر ما بعد استعماري إدارة مدينةٍ تمثل قلب الرأسمالية العالمية، يرمز إلى لحظةٍ نادرة : لحظةٍ يتكلم فيها ” الآخر ” من داخل المركز، لا بوصفه موضوعا للتحليل، بل فاعلا في إعادة تعريفه.
إنها ليست مفارقة بل انقلاب في رمزية السلطة. فالإمبراطورية التي اعتادت أن تُسائل العالم باتت تُسائل نفسها ، والمركز الذي طالما رسم ملامح الهامش يجد اليوم نفسه مُجبرا على الإصغاء إليه .
زهران ممداني ليس مجرّد سياسي تقدّمي، بل هو تجسيد لتحوّلٍ في الوعي الكوني : عودة الفكر النقدي إلى موقع القرار، وعودة الذاكرة إلى قلب السياسة.
لقد كان الغرب يحتكر تعريف الحداثة والعقل، ويمنح ذاته حق الوصاية الأخلاقية على العالم. غير أن صعود أصواتٍ مثل زهران ينبئ بانكسار هذا الاحتكار، وبأن العالم لم يعد يُدار من جهة واحدة . إنها بداية زمن جديد تتكلم فيه العدالة بلكنة متعددة، ويتحوّل فيه الهامش إلى مركزٍ بديل.
هكذا يبدو فوز ممداني الابن أكثر من إنجاز انتخابي . إنه تتويج لمسار من الفكر الذي قاوم التواطؤ مع النسيان ، ومسارٍ من التاريخ الذي يستعيد حقّه في الكلام .
عودة الهامش إلى المركز، لا بالسيف ولا بالشعار، بل بقوة الفكرة وبنور الوعي ، عودة تُعلن أن العالم بدأ يسمع، أخيرا ، صوته الآخر.
0






