المقالات

الرياض وواشنطن : زيارة تُعيد تشكيل ميزان القوى في الشرق الأوسط

زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن في توقيت لا يُشبه أي زيارة سابقة.
هذه المرة، لا يأتي ممثلا لدولة تبحث عن اعتراف دولي أو حماية خارجية ، بل كصاحب قرار في مشهد عالمي يتغيّر ومعادلات إقليمية تعاد صياغتها.
فالبيت الأبيض يستقبل اليوم قيادة تقول صراحة : انتهى زمن الأدوار الثانوية، والشرق الأوسط لم يعد يُصنع من خارج المنطقة ، بل من داخلها ، من الرياض كما من واشنطن .
تكتسب هذه الزيارة أهميتها لأنها تأتي في لحظة دولية مضطربة : قوى كبرى تعيد تموضعها ، حرب في أوكرانيا ، انفجار في غزةد، وتوازنات تتأرجح على حافة المواجهة .
وسط كلّ ذلك، تدخل السعودية بثقة لاعب يدرك حجمه الاستراتيجي ، وبمشروع لم يعد بحاجة إلى تبرير بل إلى تثبيت وتوسيع .
هذا اللقاء يعيد فتح واحد من أقدم التحالفات في العلاقات الدولية : التحالف الذي تأسس في فبراير 1945 على متن البارجة الأميركية كوينسي بين الملك عبد العزيز آل سعود والرئيس فرانكلين روزفلت.
ً غير أن التحالف يدخل اليوم مرحلة جديدة : نهاية معادلة ” النفط مقابل الحماية ” ، وبداية علاقة ندّية ومتوازنة تتسق و تتناسب مع وزن السعودية الجديد.
منذ 2018، لم تعُد السعودية دولة تنتظر قرارات الآخرين ، بل أصبحت فاعلًا استباقيا يصنع الحدث ويعيد تشكيل موقعه الإقليمي .
ومع عودة الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض ، تجد واشنطن نفسها مضطرة للاعتراف بأن تجاهل الرياض لم يعد ممكنا ، وأن التحالف معها تحوّل من خيار سياسي إلى ضرورة استراتيجية.
يحمل ولي العهد رؤية واضحة لشراكة تقوم على الاستقلال الاستراتيجي لا على التبعية .
فالسعودية لا تربط التطبيع مع إسرائيل بتقلبات الإدارة الأميركية ، ولا تسمح بتحويل استقرار المنطقة إلى ورقة تفاوض داخلية في واشنطن .
تقدم الرياض رؤيتها للسلام من موقع مبدئي ثابت : دولة فلسطينية قابلة للحياة ، وضمانات سياسية جدية ، ونهاية لسياسة فرض الأمر الواقع .
وحتى في ظل دفع إدارة ترامب لاتفاقات أبراهام إلى الواجهة ، تؤكد السعودية أن علاقتها بالولايات المتحدة أوسع من ملف التطبيع وأعمق من تسوية مرحلية .
أما حرب غزة واتساع رقعة التوتر الإقليمي، كشفا هشاشة منظومة الردع التقليدية. وهنا، تُعيد السعودية قراءة معادلات الأمن الاقليمي : لا أمن بدون ردع حقيقي ، ولا استقرار بدون قواعد جديدة تمنع الانزلاق نحو مواجهة مفتوحة بين إسرائيل وإيران .
هذه الرؤية هي التي تقود تحركات المملكة نحو صياغة هندسة أمنية جديدة لا تقوم على الوعود بل على الحقائق .
في الملفات الثنائية ، تدخل الرياض إلى طاولة التفاوض بندّية كاملة .
فهي تُطالب باتفاق دفاعي واضح ، وبشراكة تكنولوجية لا تقل عن الشراكة العسكرية .
يؤكد الرئيس الأميركي دونالد ترامب استعداده لبيع طائرات F-35 إلى السعودية، ويصفها بـ “؟الحليف العظيم ” ، اعترافٌ إضافي بمركزية دورها.
ومع ذلك، تواصل المملكة بناء قدراتها الدفاعية محليا وتطوير صناعات عسكرية وطنية تُقلل الاعتماد على الخارج وتؤسس لردع ذاتي طويل المدى .
في ملف الطاقة النووية، تبدو فرص التفاهم كبيرة ، لكن السعودية تتعامل مع الأمر كجزء من أمنها الطاقي ومشروعها الصناعي المستقبلي ، لا كورقة تفاوض عابرة . فهي تُظهر مرونة تكتيكية دون التنازل عن أهدافها الاستراتيجية.
اقتصاديا، تدرك واشنطن أن السعودية أصبحت محورا اقتصاديا عالميا. إصلاحات رؤية 2030 ومشاريعها العملاقة جعلت الرياض مركز جذب للاستثمارات الدولية ، ومرتكزا لاقتصاد إقليمي جديد . كما تستعد الأسواق لصفقات ضخمة خلال المنتدى الاقتصادي الأميركي – السعودي، في ظل إدراك أميركي بأن رأس المال السعودي عنصر لا غنى عنه في دورة النمو المقبلة ، وإدراك سعودي بأن الشراكة مع الولايات المتحدة رافعة مهمة لتنويع الاقتصاد وتجاوز عصر النفط .
في المحصلة، ما تقوم به السعودية اليوم ليس ارتجالا ولا رد فعل ، بل تنفيذ لرؤية استراتيجية يقودها الأمير محمد بن سلمان : استقلال سياسي، تفكير سيادي، وقدرة على موازنة المصالح دون الارتهان لأي قوة.
لم يعد ولي العهد لاعبا ثانويا في لعبة الكبار، بل صانع قرار يعيد رسم خريطة التحالفات ، ويضع أسس ميزان قوى جديد ، ويقود المنطقة نحو نموذج استقرار مختلف.
السعودية اليوم ليست دولة تنتظر أن تُقاد، بل دولة يُنتظر منها أن تقود.
انَ هذه الزيارة إلى واشنطن ليست مجرد محطة بروتوكولية ، بل إعلان عن مرحلة جديدة في تاريخ الشرق الأوسط… مرحلة بعناوين سعودية.

حذامي محجوب

صحفية تونسية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى