لم يكن منصب الأمين العام للأمم المتحدة يوماً مجرد وظيفة في قمة الهرم الإداري للمنظمة، بل ظل ، منذ 1945 ، المعبر الأوضح عن مزاج العالم وتحولاته ، وعن قدرة النظام الدولي على إنتاج شخصية تستطيع جمع التناقضات وصياغة اللحظة المشتركة بين الدول.
فقد تداولت على هذا المقعد شخصيات من أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية، حافظت مناطقها على حضور دائم في القيادة الأممية ، بينما ظل العالم العربي في موقع المتفرّج تقريبا ، رغم أن قضاياه تشغل حيزا كبيرا من أجندة المنظمة ومداولاتها.
تكمن أهمية منصب الأمين العام لا في مدة ولايته الممتدة لخمس سنوات قابلة للتجديد ، بل في طبيعة الدور نفسه : صوت سياسي وأخلاقي للمنظمة ، ووسيط حساس بين القوى الكبرى، ومدير لمؤسسة مترامية تتعامل مع ملفات الأمن والسلم وحقوق الإنسان والتنمية والمناخ والإغاثة.
لم يتولَّ هذا المنصب من العرب سوى الدكتور بطرس بطرس غالي (1992-1996)، الذي اكتفى بولاية واحدة على خلاف كثير من نظرائه ، وهو ما يجعل الغياب العربي عن هذا الموقع الرفيع أمرا صارخا لا ينسجم مع وزن المنطقة في توازنات العالم.
اليوم، ومع اقتراب نهاية ولاية الأمين العام أنطونيو غوتيريش، تدخل الأمم المتحدة مرحلة نقاش جديدة حول هوية خليفته ، في عالم تتساقط فيه المسلّمات التقليدية وتتصاعد الحاجة إلى قيادة أكثر قدرة على فهم تعقيد اللحظة وإدارة توازناتها الدقيقة. وهنا ينهض سؤال ظل مؤجلاً لعقود :
لماذا لا يكون الأمين العام المقبل عربيا مسلما ؟ ولماذا لا تنطلق هذه الفرصة من الرياض تحديدا ؟ .
فالسعودية اليوم باتت أكثر من مجرد قوة إقليمية .
إنها لاعب دولي صاعد بثقل سياسي واقتصادي ودبلوماسي ، يمتلك شبكة واسعة من العلاقات مع القوى الكبرى، ويقدم نموذجا متوازنا في إدارة الملفات الحساسة : من غزة إلى السودان إلى اليمن، ومن مفاوضات الطاقة العالمية إلى قضايا المناخ، إلى المبادرات الإنسانية والتنموية العابرة للحدود. وهي كلها مجالات تشكّل صلب عمل الأمم المتحدة.
إضافة إلى ذلك، تتمتع السعودية برصيد كبير من الكفاءات الدبلوماسية والخبرات الأممية التي راكمت حضورا مؤثرا داخل مؤسسات المنظمة ، ما يجعل فكرة ترشيح شخصية سعودية لقيادة الأمم المتحدة خطوة واقعية ومنسجمة مع منطق اللحظة الدولية ، وليست مجرد حلم أو مطلب رمزي.
إن العالم يقف أمام مرحلة إعادة تشكيل شاملة : توازنات جديدة، أزمات متراكمة، ونظام دولي يبحث عن قيادة تمتلك من الحكمة والاتزان بقدر ما تمتلك من القدرة على المبادرة.
وفي مثل هذه اللحظات الكبرى، يصبح اختيار الأمين العام المقبل فعلا سياسيا بامتياز، يرسم ملامح العقد الأممي القادم ويحدد اتجاه البوصلة الدولية.
ومن الطبيعي ، بل من الضروري ، أن يُعاد النظر في التوزيع الجغرافي للقيادة الأممية ، وأن يُمنح العالم العربي فرصته المستحقة عبر بوابة الرياض، الدولة التي أثبتت في العقد الأخير قدرة لافتة على بناء الجسور وصياغة الحلول وإطلاق المبادرات العابرة للإقليم.
قيادة تنطلق من المنطقة، لكنها قادرة على مخاطبة عالم متعدد الأقطاب ، وتقديم رؤية جامعة لا تبحث عن صدام بل عن توازن مستدام.
إن إدماج العالم العربي مجددا في هرم القيادة الأممية ليس امتيازا لأحد، بل ضرورة يفرضها ميزان دولي جديد، وحاجة ملحّة إلى صوت يفهم المنطقة والعالم معاً.
ولعلّ الرياض ، بما تمثله من ثقل سياسي واقتصادي واستراتيجي ، مؤهلة لتكون نقطة الانطلاق الطبيعية لقيادة أممية عربية تعيد شيئاً من التوازن الذي افتقده العالم في السنوات الماضية.
إن اختيار الأمين العام القادم ليس مجرد انتقال بروتوكولي، بل فرصة تاريخية لإعادة تعريف من يقود المنظمة وكيف يقودها.
ربما آن الأوان لأن يرى العالم أمينا عاماً عربيا مسلما ، سعوديا بالتحديد، يمسك بزمام هذه اللحظة الدولية المضطربة، ويقودها بثبات نحو أفق أكثر توازناً وإنصافا .
0






