سألت ذات يوم وفي مناسبة عابرة طبيب نفسي من جنسية عربية وهو متمكن في مجاله التخصصي: هل يمرض الطبيب النفسي المعالج بسبب كثرة الحالات المرضية التي يواجهها يومياً في عيادته؟ فأجاب بنعم، يمرض الطبيب النفسي، ومباشرة أكملت الجزء الآخر من سؤالي ومن يعالجه؟ فأجاب طبيب نفسي آخر مختص.
وحقيقة الطبيب النفسي هو كغيره إنسان لديه مشاعر وأحاسيس خاصة تقوده إما نحو الإيجاب أو قد تقوده تجاه السلب، فعلى سبيل المثال يتعرض الطبيب النفسي بحكم عمله اليومي إلى استنزاف طاقته العاطفية والجسدية؛ نظراً لتعامله مع مختلف الحالات النفسية من البسيطة حتّى المعقدة، وبطبيعة الحال هناك من المشاكل ما يعجز عن معالجتها ويتعرض فيها لضغوطات داخلية؛ بسبب عدم التجاوب الكامل لبعض الحالات النفسية لبعض المرضى وهذا ما قد يؤثر بالسلب.
هذا غير بعض الأمور الأخرى من ضغوط العمل؛ بسبب الحالات المرضية المتزايدة في عصر الضغوط النفسية المتتالية ..! والعزلة المهنية بمعنى ضعف التفاعل الاجتماعي مع الآخرين وهنا لا بدّ من التوازن بين الحياة الشخصية والحياة المهنية، إضافة إلى عبء حتمية السرية التامة في معلومات وبيانات المرضى، وغيرها من المواقف المهنية المتعددة.
وكل ما ذُكر يقع ضمن دائرة المسؤوليات والمهام الطبيعية لأي طبيب نفسي بل هي في الواقع تفاصيل ممارسة عمله اليومي وهنا لا مجال للاستغراب في ظهور حالات محدودة وطارئة لأي طبيب نفسي مثلاً من حدوث اكتئاب عابر يتجاوزه في أقرب وقت ممكن ويعود بعدها لكامل صحته النفسية ومن ثمّ مواصلة عمله.
ولكن العجيب والغريب في الوقت الحالي أن نسمع وبدهشة بالغة لآراء شاذة لم تُسمع من قبل ذلك إلا من قبل أصحابها فقط، وفي الوقت نفسه لا تقع ضمن مفاهيم علمية ثابتة بل هي آراء شخصية متناقضة ناشئة في التو واللحظة لأحداث لا تخضع في الأساس للطبيعة الإنسانية الخالصة.
فمثلاً حب الوطن لا يخضع لمقاييس علمية ولايُعترف بها مهما تشدق بها بعض مدعيها فالوطن أسمى من أي مقياس، وحب الوالدين حالة إنسانية فريدة لا تنقاد لنظريات نفسية بل هي حالة فطرية لا تحتاج إلى تعليم أو توجيه فألم فقد الوالدين لا يعوض مهما كان، وهكذا في بقية الرموز العظيمة والأشياء الهامة.
وقد تُحدِث الصدمة في حينها تصرفات غير مقبولة ولا يُلام المصدوم في كل تصرفاته وهو تحت تأثير صدمة نفسية عميقة سواء بفقد الأم، أو الأب، أو الابن، أوغيرهم، ولكن اللوم أن يتحدث الإنسان للأسف الشديد بما لا يُقبل وهو بعيد كل البعد عن آثار الصدمة بل وهو في وضع نفسي مستقر.
على أي حال في المجتمعات الإنسانية كافة هناك طبيب نفسي واعي لكل ما يدور من حوله فيمرض ويدرك أنه يمر بحالة مرضية مؤقتة فيسارع لمعالجة نفسه لدى زميل آخر، وهناك طبيب نفسي يمرض ويدرك أو حتّى لا يدرك أنه الطبيب النفسي المريض !






