ليس التاريخ ذكرى بعيدة ولا سردًا لأحداثٍ عبرت، بل هو وعيٌ حيّ يكشف حقيقة الإنسان في مساره الطويل بين الماضي والحاضر. فالتاريخ لا يُستعاد ليُروى، بل ليُفكَّر فيه بوصفه منهجًا لتأمّل التجربة الإنسانية، ومرآةً نتعرف من خلالها على أنفسنا. إنّ الوقائع لا تُنتج معناها إلا حين يلامسها عقل قادر على التأويل واستنطاق الصمت الكامن فيها.
يُدرِّس كثيرٌ من المؤرخين في عالمنا العربي التاريخَ من خلال تكرار ما ألّفته الكتب، بدل استنطاقه وتحليله. فتتحول قاعات الدراسة والمؤتمرات إلى فضاءاتٍ لإعادة القول لا المساءلة؛ وإلى تكرار الرواية لا تفكيكها، حتى يبدو الماضي نصًّا مكتملًا لا يحتاج إلى نظرٍ جديد. وهكذا يتكرس الخلط بين ناقل الوقائع وبين المؤرخ الذي يقرأها بعين الوعي والنقد.
فالمؤرخ الحق ليس حافظًا للوقائع، ولا راويًا للقصص، بل هو عقلٌ يتوغّل في النصوص ليحرّرها من ظاهرها، ويعيد بناءها في ضوء الدلالة. إنّ التاريخ لا يُنسب إلى الماضي وحده، بل إلى اللحظة التي يتقاطع فيها مع وعي المؤرخ؛ فالماضي يبقى خامدًا ما لم تُخرجه القراءة النقدية إلى دائرة المعنى. من هنا قيل إنّ لا تاريخ بلا مؤرخ، لأن المؤرخ هو الذي يجعل من الوقائع معرفةً ومن الزمن خبرةً.
والمؤرخ الواعي لا يقف عند سطح الحادثة، بل يستنطق دوافعها ويربط السبب بنتيجته، ويغوص في الإنسان الذي صنعها. وبهذا تتحوّل الوقائع من صورة جامدة إلى نبضٍ حيّ يضيء الحاضر. فالتاريخ ليس ما حدث فقط، بل ما يبقى من الحدث في وعينا كلما أحسنّا تأمله.
أما النص التاريخي، فليس مرآةً صافية تنقل الحقيقة كما هي، بل طبقات متداخلة يخفي بعضها ما يظهره الآخر. لذلك لا تُقاس قيمته بما يقوله فقط، بل بما يسكت عنه. فالمؤرخ الفطن ينتقل من ظاهر العبارة إلى باطن الدلالة، ومن نصّ الحقيقة إلى حقيقة النص. إنه يفكّك ويعيد تركيب البنية السردية والفكرية، مدركًا أن التاريخ مجالٌ مفتوحٌ للتأويل لا حقيقةٌ نهائية.
وحين تُحسن الأمم قراءة تاريخها، لا تتقوقع وراء أمجادها، بل تجعل منه منصة للانطلاق نحو بناء جديد. فالحضارات لا تنهض بما تحفظ من حكايات، بل بما تفهم من دروس وما تنتجه من وعي. وهكذا يصبح التاريخ طاقةً تفتح أفق المستقبل، لا ظلًّا للماضي. فالتاريخ — حين يُؤوَّل — لا يصف ما كان فقط، بل يكشف ما يمكن أن يكون. ومن هنا يغدو وعي التاريخ هو البوصلة الأولى في رحلة النهوض الحضاري


