المقالات

شرف المطلع: حين يقدّم الشاعر طقس الفن على فقه النجاة!

(بانت سعاد….) نموذجا.

المقدمة: المطالع… البوّابة التي لا تُفتح بلا جمال:

​احتلّت المطالع الشعرية عند العرب منزلة لا يشبهها شيء في الأجناس الأدبية الأخرى. فالمطلع لم يكن مجرد بيت يُستهل به الكلام، بل كان امتحانًا فنيًا حاسمًا يُعرّف السامعين بقدر الشاعر قبل أن يتبيّنوا قدر قصيدته. ومنذ الجاهلية، كان البيت الأول بمنزلة “بطاقة عبور” لا تقبل المساومة؛ إذا جاء قويًا، اندفع المجلس إليه، وإذا جاء ضعيفًا، انصرف عنه ولو كان ما بعده أجود.
​لم يكن ذلك تعبيرًا عن مزاج عربي فحسب، بل عن وعي شعري عميق يرى أن القصيدة فنّ يبدأ من لحظته الأولى، وأن المطلع هو رأس الجمال فيها وإعلان كرامتها. وقد ظلّت هذه المكانة ثابتة عبر العصور، حتى قيل: «أعذبُ الشعر مطالعُه.» وهذا الحكم يكشف ادّعاءً ضمنيًا: أن الشاعر إن لم يُحسن بداية قصيدته، فلن يُحسن ما بعدها.
​من هنا جاءت عناية امرئ القيس وزهير وطرفة والمتنبي وشوقي ومحمود درويش بالمطلع عناية تكاد تُوازي عنايتهم بالقصيدة كلها. كان البيت الأول عندهم مرآة الشاعر، ومفتاحًا لطبقة اللغة التي سيعتمدها، وجرسًا يوقظ السامعين، ونافذة تطلّ على مزاج النص واتجاهه.
​ومع كثرة المطالع التي خلّدها الشعر العربي القديم والحديث، بقي مطلع واحد أكثر استدرارًا للدرس وأشد إثارة للتحليل: مطلع كعب بن زهير في قصيدته الشهيرة “بانت سعاد”.

​مطلع “بانت سعاد”… غزلٌ في حضرة النبوة:

​يُعدّ مطلع كعب بن زهير:
«بانت سعاد فقلبي اليوم متبولُ…»، ​من أكثر المطالع إثارة للنقد والجدل، لا لجماله فحسب، بل لسياقه الفريد. كعب دخل على رسول الله ﷺ في لحظة لا تشبه أي لحظة في حياة شاعر عربي: كان مطاردًا، محكومًا بالقتل، لا يضمن النجاة إلا بصدق التوبة. ومع ذلك—ورغم حساسية الموقف وجلاله—لم يبدأ بالاعتذار، ولم يستفتح بالتوسل، بل بدأ بالغزل، كما لو أنه في مجلس شعر من مجالس الجاهلية.
​هذا السلوك، بقدر ما يدهش القارئ المعاصر، يكشف طبيعة الذائقة العربية يومئذ. فالشاعر عند العرب لا يتخلّى عن شرف الصنعة، حتى لو وقف على حافة الموت. والمطلع ليس رفاهية يمكن الاستغناء عنها، بل هو العقد الذي يُبرمه الشاعر مع اللغة أولًا؛ هو الباب الذي يدخل منه الشاعر إلى قصيدته، ولا يجوز لشاعر حقيقي أن يتجاوز هذا الباب أو يستبدله خوفًا أو اضطرابًا.
​ولعلّ هذا بالضبط ما أثار جدل العلماء والدارسين قديمًا وحديثًا: كيف يبدأ شاعر غزلي في موقف ديني جليل؟ وكيف يؤخّر الاعتذار إلى ما بعد المطلع؟ وكيف يتقدّم الفنّ على الخوف، وتقاليد الشعر على ضرورة النجاة؟
​إلا أن قراءة أعمق للمشهد تكشف أن كعب كان وفيًا لسنن الشعر العربي قبل أن يكون وفيًا لجسده الخائف. لقد أدرك حدسيًا أن هويته كشاعر ستفقد معناها إن دخل القصيدة مكسورًا. فالمطلع ليس مجرد بيت؛ هو إعلان:
​”أنا شاعر، وقد جئتُ بالشعر كاملًا، لا بنصف لغة ولا بنبرة مهزومة.”

​المطلع بوصفه هوية لا يمكن التنازل عنها:

​كان العربي القديم يرى في المطلع شرفًا مكتملاً. البيت الأول يحمل نبرة الشاعر، ويقدّم صوته، ويعلن عن شخصيته الفنية. والتنازل عنه، أو البدء بما لا يشبهه، يعني أن الشاعر سلّم نفسه للخوف، وتخلّى عن أثمن ما يملك.
​شعراء العرب كانوا يحفظون هذا العرف كما تُحفظ الأمانة. فكما لا يدخل الرجل مجلس قومه بلا تحية، لا يدخل شاعر قصيدته بلا مطلع. ولهذا كان كعب، وهو يقترب من رسول الله ﷺ، مدركًا أنه لا يستطيع أن يتخلى عن أول أبواب القصيدة، مهما كانت الضرورة ملحّة.
​لقد بدأ بالغزل لأنه أدرك أن المطلع هو “إعلان الوجود” الخاص به؛ أنه لا يستطيع أن يُختزَل في شخصية “التائب الخائف”؛ بل يجب أن يدخل في هويته الكاملة كشاعر. هذا الباب هو الباب الوحيد الذي يمكن أن يدخل منه دون أن يخسر أنطولوجيته (وجوده) كفنان. واللافت أن الرسول ﷺ لم ينكر عليه شيئًا، ولم يطلب منه حذف المطلع أو تغييره، بل استمع إلى القصيدة كاملة، ثم أكرمه ببردته الشريفة، في مشهد يجمع بين سموّ الروح وجمال الفن.
​وهنا تكمن الدلالة الكبرى:
أن قبول الرسول ﷺ للمطلع الغزلي هو إقرار بأن التحوّل الروحي لا يستدعي بالضرورة إلغاء الوعي الجمالي الأصيل. لقد قُبل المطلع لأنه صادق، ولأن كعب قاله من قلب شاعر، لا من قلب متلاعب أراد التوسل بـ”نصف لغة”. لقد سُمح لـ”سعَاد” بالمرور لتكون “البُردة” هو هدف الوصول.

​فنيّة تتقدّم على الخوف:

​يقدّم مطلع “بانت سعاد” درسًا نادرًا في فهم العلاقة بين الإنسان والفن. ففي اللحظة التي كان الخوف فيها سيد الموقف، وفي اللحظة التي كانت فيها الحياة مهددة، اختار كعب أن يبدأ من لغته، لا من خوفه.
​هذا التصرّف—الذي يبدو لأول وهلة غير منطقي—يصبح في السياق العربي منطقيًا تمامًا. فالعرب لم يكونوا يرون في الشعر وسيلة للنجاة، بل يرونه قيمة قائمة بذاتها. وقيمة الفن لا تقلّ عن قيمة الذات، بل قد تعلو عليها عندما يكون الشاعر في اختبار.
​لقد انتصر كعب على خوفه بالمطلع. وأنقذه الشعر قبل أن ينقذه العفو. ودخل التاريخ من باب البيت الأول لا من باب التوسل.

​الخاتمة:

​“بانت سعاد” ليست مجرد قصيدة اعتذار؛ إنها لحظة التقاء بين طقس الفن وفقه الرحمة. لحظة تُظهر أن الشاعر العربي لا يفاوض في قيمة المطلع، ولا يتنازل عنه، لأن المطلع عنده جزء من كرامته، وصوته الأول، وعنوانه الذي لا يبدّله مهما قست الظروف.
​ولعلّ هذا السبب وحده كافٍ لبقاء البيت حيًا حتى اليوم، ولتداول القصيدة عبر أربعة عشر قرنًا. لقد بدأت بغزل في حضرة النبوة، وانتهت إلى واحدة من أنقى لحظات التسامح والجمال في التراث العربي، مؤكدةً أن الشعر يمكن أن يكون شفيعًا حين يحمل شرف الصنعة كاملاً غير منقوص.

 

خلف سرحان القرشي

خلف سرحان القرشي

مؤلف ومترجم ومدرب في الكاتبة الإبداعية

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. يا لروعة هذا الالتقاط… لقد أحطت بالمطلع كما يُحيط الضوء بالجرح كشفته لا لتفضحه، بل لتُظهر سر قوته. ما قلته يبرهن أن البيت الأول ليس مجرد بدء، بل موضع الاختبار الذي يثبت فيه الشاعر نسبه الفني، ويعلن أنه لا يتنازل عن لغته حتى وهو يعبر أخطر أبوابه. لقد جعلت من قراءة كعب درسًا في أن الجمال حين يكون صادقًا لا يعارض الجلال، بل يجاوره في اتزان نادر. هكذا بدا المطلع في نصك .. لحظة يتصافح فيها الفن والنبوة، ويتقدم فيها الشاعر إلى نفسه قبل أن يتقدّم إلى العالم.

اترك رداً على رحمة الطويرقي إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى