البطاقات

زيارة سمو ولي العهد لأمريكا: إستراتيجيات تتلاقى ومصالح تتناغم

تمر العلاقات السعودية الأمريكية في هذا العهد بأزهى عهودها عمقًا ومتانةً ورسوخًا، وتبدو بعد أن تخطت التسعين عامًا نموذجًا للعلاقات الثنائية على مستوى العالم. صحيح أن تلك العلاقات بدأت عمليًا بالاجتماع التاريخي الهام الذي جمع بين العاهل السعودي مؤسس الكيان جلالة المغفور له بإذن الله الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود والرئيس الأمريكي فرانكلين روفلت في أعقاب الحرب العالمية الثانية على ظهر الطراد الأمريكي كوينسي في البحيرات المرة بعد مؤتمر يالطا، إلا أن العلاقات بين البلدين دشنت قبل ذلك الاجتماع منذ الثلاثينيات. وصحيح أن العلاقات بين البلدين – كأي علاقات بينية على مستوى العالم – شهدت موجات جزر، وعلى الأخص خلال حرب أكتوبر 73، وأحداث الحادي عشر من سبتمبر، إلا أنها سرعان ما تعافت وعادت إلى طبيعتها.
وزيارة سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان للبيت الأبيض – الثانية منذ ولاية ترامب الأولى، والثالثة منذ ظهور سموه على مسرح الأحداث، حيث قام سموه بزيارة لواشنطن في عهد الرئيس بايدن عام 2016- هذه الزيارة تدشن لمرحلة جديدة من العلاقات بين البلدين تتجاوز مفهوم الشراكة الإستراتيجية وتتعدى المألوف في العلاقات الدولية من خلال ما يجمع بين البلدين والشعبين الصديقين من مصالح مشتركة وتقارب في المواقف الدولية وتفاهمات حول العديد من القضايا الدولية، إلى جانب نقاط القوة التي تتمتع بها المملكة والولايات المتحدة: المملكة باعتبارها قبلة المسلمين من جميع أنحاء العالم وأقدس بقاعهم، وأيضًا كونها إحدى الاقتصاديات الكبرى على مستوى العالم باعتبارها عضو في مجموعة العشرين، إلى جانب موقعها الجيوسياسي المميز وباعتبار الرياض إحدى عواصم القرار على المستوى الإقليمي والدولي. والولايات المتحدة باعتبارها قوة نووية عظمى، وقائدة العالم الغربي، وعضو في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، والناتو، وباعتبارها أيضًا أقوى اقتصاد في العالم والداعم الأساس للنظام الدولي. وتعد الولايات المتحدة أكبر شريك تجاري للمملكة بحجم خمسمائة مليون دولار. وقد جسدت كلمات الرئيس ترامب بوصف المملكة بأنها الحليف الأعظم للولايات المتحدة ، وفي وصف لقائه بسمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان: “إنه أكثر من مجرد لقاء. نحن نُكرم المملكة العربية السعودية، وولي العهد” مدى القوة والمتانة التي تربط العلاقة بين البلدين الصديقين.
ويذكر أن زيارة سموه السابقة للولايات المتحدة عام 2018 والتي استغرقت ثلاثة أسابيع كاملة أدت إلى توقيع العديد من الاتفاقيات، والشراكات الاقتصادية والتجارية، ومذكرات التفاهم، وتعزيز الاستثمارات بين البلدين، وتعميق أواصر الصداقة بينهما. وكذا كانت زيارة الرئيس ترامب للرياض في مايو الماضي، وفي كلتا الزيارتين اللتين قام بهما الرئيس ترامب للمملكة كانت المملكة المحطة الأولى في زيارته للخارج.
لقد وقف العالم مشدوهًا أمام الحفاوة البالغة والاستقبال الأسطوري غير المسبوق الذي أعد لسمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في البيت الأبيض، سواء من حيث عزف فرقة مشاة البحرية الأمريكية، أو حمل ضباط على ظهور الخيل العلمين السعودي والأمريكي، أو تحليق طائرات مقاتلة متطورة فوق البيت الأبيض وهو ما لم يحدث من قبل- ، أو الحديث الودي الذي دار بين سموه والرئيس ترامب، واستغرق أكثر من عشرين دقيقة وهما يتجولان عند مدخل البيت الأبيض قبل دخولهما إلى داخل البيت.
وقبل الزيارة، كانت مجموعة من الاتفاقيات الأمريكية السعودية قيد الإعداد، بما في ذلك اتفاقية في مجال الذكاء الاصطناعي، واتفاقية دفاع مشترك، واتفاقية من شأنها أن تتيح للمملكة العربية السعودية في نهاية المطاف الوصول إلى التكنولوجيا النووية الأمريكية وتوطين السلاح في المملكة. وقد أولت المباحثات بين الزعيمين السعودي والأمريكي أهمية خاصة للاستثمار الداخلي بينهما.
وجاءت إشارة الرئيس ترامب في بداية لقائه بسمو ولي العهد بموافقة واشنطن على بيع السعودية طائرات
F 35 بمثابة مؤشر على نجاح الزيارة حتى قبل بدء المباحثات.
وجاءت مباحثات سموه مع الرئيس ترامب أول محادثات مباشرة بينهما منذ وقف إطلاق النار في غزة، وبعد الجهود الكبيرة التي بذلتها المملكة لدفع أوروبا ودول العالم الاعتراف بدولة فلسطين بما يعتبر ضربة موجعة لإسرائيل، وعقب صدور قرار مجلس الأمن الدولي الذي يدعم اتفاق وقف إطلاق النار في غزة الذي جرى التوصل إليه وفق خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بنقاطها العشرين، بما يعتبر ضربة موجعة أخرى لإسرائيل.
وجاءت زيارة سموه لتؤكد مكانة المملكة العربية السعودية بصفتها قوة إقليمية محورية لها حضور مؤثر في معادلة الأمن والاستقرار العالمي، فيما وجدت الولايات المتحدة في المملكة شريكاً يُعتمد عليه في ملفات الطاقة، والاقتصاد، والسياسة، والاستثمار ومحاربة الإرهاب، والأمن الإقليمي، ولم تكن هذه العلاقة نتاج ظرف سياسي عابر، بل ثمرة مسار طويل من التعاون الذي تأسس على الثقة والمصالح المشتركة.
واللافت أن مباحثات سموه مع الرئيس ترامب لم تقتصر على القضايا والشؤون والملفات التي تهم البلدين الصديقين فقط وتخدم المصالح المشتركة بينهما، فقد حمل سموه معه في تلك الزيارة التاريخية هموم وقضايا أمته وفي مقدمتها القضية الفلسطينية وسوريا والسودان ولبنان.
الزيارة من هذا المنطلق، وبتلك الأبعاد السياسية والأمنية والاقتصادية لابد وأن تنعكس نتائجها على مصلحة وأمن المملكة العربية السعودية ومنطقة الشرق الأوسط ككل.
يمكن النظر إلى زيارة سموه لواشنطن بأنها إضافة مهمة في مسيرة علاقات الصداقة والتعاون والشراكة والتحالف بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية، وتعزيز للدور السعودي المتنامي في الحفاظ على أمن وسلامة واستقرار المنطقة.

د. سونيا أحمد مالكي

طبيبة - مديرة إدارة الصحة المدرسية بتعليم جدة سابقًا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى