المقالات

المشاحنات بين المثقفين وطلبة العلم

ليس من المفاجآت الغريبة انفكاكُ الجهة بين الثراء المعرفي وبين المنتسبين إليه، وذلك حين تبدو المفارقة بينهما صارخة ومتناقضة. ومن المسلم به أن المبادئ والقيم جاذبة ومؤثرة لما تحمل في طياتها من أمان واطمئنان وسلام، ولكن الغريب أن يكون الانتساب إلى الثقافة والعلم شكليًا، ولا تلامس أخلاقُ وأنماطُ حياةِ بعضِ المثقفين وطلبةِ العلم.

فلم تكن الثقافة النقية والعلم النافع يومًا عبئًا ينوء حمله أو يسوء فعله، مما يملي علينا البحث عن الخلل في منظومة الجموح الأخلاقي لدى بعض المثقفين وطلبة العلم، ولا سيما ما يبدو من تصرفات نابية لبعضهم تمثلت في: التشاحن، والتباغض، والعداء السافر، وما يطفو على السطح من المظاهر الشاذة مثل: الشللية والحزبية، والتأليب بالنميمة الفاجرة، والبحث عن السقطات، وتتبع الأغلوطات، والتصنيف والتحزب، والعنصرية والعصبية، وتوظيف الثقافة والعلم للأمجاد الشخصية، أو الشماتة بما يُصاب به بعض المثقفين أو طلبة العلم من المصائب والنكبات، بما في ذلك التندر بمصيبة الموت… إلى هذا الحد من الإسفاف المشين.

إذ من المفترض أن رسوخ القدم في الثقافة وفي بحور العلم يورث سعة الأفق، واستبطان الوعي، والتخلص من قاذورات سوء الظن، ونفايات التعصب، وحظوظ النفس الأمّارة بالسوء، والانفتاح بثقة وصدق وعفوية على الآخرين.

وعند تحليل هذا الانفصام النكد بين الثقافة والعلم ولوازمهما التربوية وبين من ينتسب إليهما، نلحظ بوضوح تخلّف عنصر التربية أو رياضة النفس ابتداءً، أو —في المصطلح الإسلامي— (ضعف الإيمان وأثره على الأخلاق)، أو —في المصطلح التربوي— (التزبزب قبل التحصرم)، مما ساق إلى تشكيل هذا التشويه والعوار السقيم في شخصية بعض المثقفين وطلاب العلم، وذلك حين يصبح العلم والثقافة شعارًا لا دثارًا، ومسحةً لا صبغة، وحِرفةً لا عقيدة، وتغدو للسمعة والرياء، وطلب الجاه والمنصب. وتلك إحدى وأخطر قواصم الانحدار الأخلاقي، حين يُنفق العلم والثقافة في سوق النخاسة برخصٍ وابتذالٍ مشين.

وقد ظهر هذا المسخ الأخلاقي حين ضُربت التربية في مقتل، وعُزلت عن العلم وتلقّيه، وغلب تيّار البحث عن الأضواء والتصدر، وتعليق نياشين الألقاب العلمية، والذهول عن عموم الترهيب الوارد في الحديث الصحيح:
(من طلب علمًا مما يُبتغى به وجهُ الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة) رواه أبو داود بإسناد صحيح.
ونلحظ أن كلمة علمًا جاءت نكرة في سياق الإثبات، فتعم كل علم نافع ومشروع، ولا تختصّ بعلوم الشريعة فحسب، بل تشمل كلَّ العلوم النافعة جمعاء؛ فالعلم النافع رحم جامعة بين أهله، ومن قطعها فقد قطع رحم العلم.

وتكشف السنة المطهرة عن جوابٍ عجيب لسبب النفرة التلقائية بين المسلم وأخيه، ولو كانا من ذوي الثقافة والعلم، بدون مبرر ولا سابق إنذار؛ يكشفه النبي صلى الله عليه وسلم ويفكّ طلاسم ذلك العداء غير المنطقي بين المسلمين، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (ما توادّ اثنان في الله فيُفَرَّق بينهما إلا بذنبٍ يحدثه أحدهما) رواه أحمد بإسناد صحيح.
فهذا التنافر لم ينشأ من فراغ أو من حدثٍ عابر؛ بل هو أعمق نفوذًا من ذلك، وأدقّ تأثيرًا، حيث يتصل ويتمثل في عِرق الآفات الآنفة الذكر؛ وسوسها الناخر في جدار الأخوة والزمالة والصداقة والجوار والمهن المشتركة.

وإلى هؤلاء المصابين والجرحى بتلك الآفات أُرسل هذه الأبيات:

غُثاءُ الفكرِ يُثقلُ مَنْ وعاهُ
ويُدني الجهلَ وَصْفًا مَنْ رَواهُ

ومَلهاةُ الرسومِ بوصفِ زورٍ
ويُوسَمُ بالخزَايةِ مَنْ جناهُ

ولا علمَ لِمَنْ لا فِقْهَ فيهِ
إذا ساوى الجهولَ وما عَناهُ

حزازاتُ الصدورِ تُسيءُ فكرًا
وتُنبتُ حاقدًا فيما يراهُ

إذا سارَ المثقفُ دون وعيٍ
وصار الهمُّ في دُنيا مُناهُ

تُنَكّبَ ساقطًا وصفًا واسْمًا
ولَفَّقَ سادِرًا في مُنتهاهُ

حريٌّ أن يسيرَ بغير وعيٍ
ويُصبِحَ هائمًا حتى مداهُ

ووصفُ الجهلِ يَلْصقُ بالحَقودِ
لِمَنْ رامَ المقامَ وما حواهُ

ودينُ الله يبرأُ من جهولٍ
سليلِ الحزبِ معبودٍ هواهُ

وقلبٌ لا يُسام بوصفِ زهدٍ
يُدنِّسُ غافلًا حتى حنَاهُ

أ.د. غازي غزاي العارضي

استاذ الدعوة والثقافة بجامعة الاسلامية وجامعة طيبة سابقا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى