ما إن ذاع نبأ وفاة معالي الأستاذ الدكتور محمد العقلا بعد معاناة مع المرض دخل على إثرها بغيبوبة استمرت شهرًا حتى انبرت الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي لذكر مناقبه والترحم عليه خاصة ممن عايشه أو التقى به من جميع الأصقاع، والناس شهود الله في أرضه. إنها لحظة فارقة في حياة كلّ من عرفه، وخسارة كبيرة للمجتمع الذي شهد له بالعطاء والتفاني. فقد كان رحمه الله عميداً لكلية الشريعة ثم وكيلا للدراسات العليا والبحث العلمي بجامعة أم القرى في مكة المكرمة -حيث مسقط رأسه و مقرّ دراسته- ثمّ رئيساً للجامعة الاسلامية بالمدينة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام. ورغم معرفتي وأسرتي به إبان عمله مديرًا للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة إلا أنني لن أتناول جوانب شخصيته التي منحها الله القبول ومحبة الناس، بل سأكتب عن سمات القائد التي جعلت كل تلك الأقلام تكتب عن خُلقه وعلمه، وتسطّر مناقبه، وقد عرفوه في أروقة الجامعتين العريقتين جامعة أم القرى وكيلاً وقبلها عميدًا للشريعة، ثم الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية رئيساً مدة خمس سنوات.
لكن ما السمات التي جعلت أثره يذكر ويشكر رغم قصر مدة رئاسته للجامعتين؛ إذ لا يعدّ زمنًا طويلًا، فكم من رؤساء بقوا سنوات وخرجوا من دون أن يتركوا أثرًا. لقد جعل العقلا هدفه الأول خدمة الناس، غذ إن المسؤول عندما يؤمن أن منصبه وسيلة لخدمة الناس، وليس غاية في حدّ ذاتها، لن يتوانى عن خدمتهم، ولن يتأفف من طلباتهم، وهذا ما كان يفعله العقلا -يرحمه الله-؛ فلم يكن يغلق بابه في وجه أحد، بل كان يسرع في قضاء حاجة مَن قصده، لأنّه علم أنّه صاحبُ حاجة ساقه الله إليه ليشرُف بخدمته كما علّمه سيّد الخلق ﷺ :”من كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته”.
ما أجمل أن يكون كلّ مسؤول – وكلّنا مسؤول- سريعًا في الاستجابة لاحتياجات الناس، وأن يعمل على حلّ مشاكلهم بفعالية ومن دون تمييز، وكذا كان الدكتور العقلا -يرحمه الله- عادلًا في تعامله مع الناس من دون تفريق بينهم، متفانيًا في عمله، على استعداد للتضحية بوقته وجهده لخدمة الناس، وكانت له يد طولى في تطوير الخدمات التي تقدمها الجامعة للطلبة، شفّافًا في تعامله مع مرؤوسيه، مسؤولًا أمامهم عن أفعاله وتصرفاته، يقدّر جهود العاملين معه، مساهمًا فاعلًا في مجتمع الجامعة خاصة و المجتمع بشكل عام.
وفي هذا يتجسّد معنى مهمّ للقادة هو أن المنصب لا يعني التعالي على الناس، بل الوصول للناس ومساعدة المحتاج منهم. ولقد حقق العقلا معادلة مهمة جعلت الناس تتذكر فضله بعد مرور أكثر من عقد على تركه منصب رئاسة الجامعة الإسلامية حيث غادرها عام 1433 ه بعد خمس سنوات كان فيها قائدًا وأبًا وأخًا لكلّ مَن عرف، فترك أثرا لن ينساه أحد. عدا أنه نقل الجامعة الإسلامية في فترة وجيزة في جميع الجوانب الإدارية والعلمية والثقافية والفكرية نقلات نوعية وأصبح لها حضور معرفي بين الجامعات السعودية والجامعات العربية والإسلامية يليق بها وهذه شهادة شخص ممن زامن عمله: ” عندما كان رئيسًا للجامعة الإسلامية أضاء منها كلّ شيء، فملأها رحمة وعدلًا وتيسيرًا على الناس. ولما غادر الجامعة بكاه كلّ من عاصره من الطلاب والموظفين ودعوا له بالخير والتوفيق.”
كان الدكتور العقلا -يرحمه الله- نموذجًا للتواضع والعطاء، حيث لم يكن المنصب الذي شغله يومًا حاجزًا بينه وبين الطلاب أو الناس، بل كان قريبًا منهم دائمًا، يسعى لخدمتهم ومساعدتهم. وكان له دور بارز في خدمة التعليم والطلاب. وبالأخص تفريج كربات طلاب المنح الدولية حيث كان يزورهم في مساكنهم الجامعية، ويتودد إليهم، بل يتناول معهم طعامهم ويقضي حوائجهم.
وفي حياته الاجتماعية كان مختلطاً بالناس -بكافة مستوياتهم- بدماثة خُلق قلّ نظيرها، حتّى شهد له أهل المدينتين المقدستين أنه كان محبًّا للناس ومحبوبًا ، شهمًا جوادًا كريمًا رقيق القلب، يسارع في تفريج الكربات، ويجيب دعوة الداعين له على بساطتهم، يذهب بنفسه إلى بيوتهم المتواضعة ملبيًا دعوات مناسباتهم السعيدة، كما كان يسارع في تعزية كلّ من مات منهم عرفه أو لم يعرفه.وما عُهد عنه يومًا أنّه أغلق بابه أو تأفف من السائلين، أو ضجر من إلحاح الملحين.
إن رحيل الدكتور العقلا ليترك فراغًا كبيرًا في قلوب كلّ من عرفه، وإنّ موته يدعونا إلى التأمل في حياته ومسيرته الأكاديمية والإدارية لنستلهم منها الدروس والعبر. قال عنه أحد محبيه: “كان رحمه الله أمة في أخلاقه، أمة في إدارته، أمة في مساعدة الناس، أمة في تفهم حاجات المحتاجين.”
وختامًا إنّ مثل محمد العقلا لا ينسى، بل يظل باقياً في حديث الناس ودعوات طلابه ومجتمع المدينتين المقدستين. فاللهم نشهدك أنه كان محسنًا للناس، وإنك قلت “هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ” فاللهم أحسن إليه و تجاوز عنه، واجعل قبره روضة من رياض الجنة.




