المقالات

جحا في أروقة المنتخب..

يبدو أن المنتخب السعودي يعيش هذه الأيام نسخة كروية محدثة من حكايات جحا، غير أن البطل هذه المرة لا يمتطي حماراً، بل يقف على الخط الجانبي مرتدياً بدلة أنيقة، ويجلس خلف الطاولات في المؤتمرات الصحفية بربطة عنق رسمية. جحا هنا ليس فرداً، بل حالة؛ تبدأ بالمدير الفني ولا تنتهي عند المسؤول الإداري، حالة تتقن الحكاية أكثر مما تتقن الفعل، وتجيد التبرير أكثر مما تجيد القرار. فالمدير الفني، كجحا تماماً، لا يخطئ لأنه دائماً «كان يقصد ذلك». يخسر المنتخب؟ كانت تجربة. يفوز بشق الأنفس؟ عبقرية تكتيكية. يتراجع الأداء؟ مرحلة بناء. وكلما سُئل عن الخلل، أجاب بحكاية، وكلما طُلب منه علاجاً، قدّم موعظة، حتى تحولت المؤتمرات الصحفية إلى مجالس سرد، لا غرف تشخيص فني. وفي قصص جحا، كان الحمار هو الثابت الوحيد وسط الفوضى، أما في نسختنا الكروية، فالثابت الوحيد هو ارتباك الاختيارات. تشكيلات تتغير بلا منطق واضح، ويُستدعى اللاعب ليس لأنه الأكفأ، بل لأنه الأكثر جلوساً على دكة بدلاء أحد الأندية الجماهيرية. لاعبون احتياطيون في أنديتهم يصبحون أعمدة المنتخب، وكأن القميص الأخضر يمتلك قدرات خارقة تعوّض غياب الجاهزية. وكما كان جحا يبرر أفعاله الغريبة بحكمة تأتي متأخرة، تتوالى أعذار المدير الفني: ضغط مباريات، قلة انسجام، قوة منافسين. أعذار استُهلكت حتى فقدت قدرتها على الإقناع، وأصبحت غاية في ذاتها لا مدخلاً للإصلاح.
غير أن جحا لا يقف وحيداً على الخط. فخلفه، أو إلى جواره، يظهر جحا الإداري، الذي يتولى مهمة الدفاع في المؤتمرات الصحفية، وتجميل الخسائر، وتحويل الإخفاق إلى «مكسب خبرة»، والفشل إلى «مشروع طويل المدى». ويبلغ هذا المشهد ذروته حين يُسأل المسؤول الإداري عن أسباب الإخفاقات المتكررة، فيقدّم واحداً من أغرب التبريرات؛ إذ لا يستشهد بالمنتخبات التي تألقت ونجحت، ولا يقارن نفسه بتجارب صنعت الفارق، بل يستحضر منتخبات كثيرة أخفقت، مؤكداً أننا لسنا الوحيدين. تبرير عجيب يحوّل الفشل إلى معيار، ويجعل التعثر إنجازاً جماعياً ما دام الآخرون قد تعثروا أيضاً. فبدلاً من أن تكون المقارنة سلّماً للصعود، تصبح عزاءً للهبوط، وبدلاً من البحث عن طريق النجاح، يُكتفى بالوقوف في طابور الفاشلين لأنه الأكثر ازدحاماً والأقل إحراجاً.
ولا يغيب جحا عن المشهد داخل أروقة اتحاد كرة القدم، فقلّما يمر أسبوع دون أن يُمتعنا بقرار طريف جديد؛ تارةً بتأجيل جولة، وتارةً بتقديمها، وأخرى بالاجتهاد في قبول احتجاج أو رفضه، ثم في فرض عقوبة على لاعب أو فريق أو حتى جمهور، وفق منطق يُفترض أن يُفهم بعد صدوره، لكنه في الواقع لا يُبرَّر ولا يُعقل. وحين شددنا الرحال إلى هونغ كونغ لإقامة مباريات السوبر السعودي، اكتشفنا أن جحا أفندي سبق الجميع إلى هناك، وكأن حضوره بات شرطاً لاكتمال المشهد. وما تزال حكايته مفتوحة مع احتجاج القادسية وطلب إعادة مباراة السوبر؛ حكاية لم تبلغ خاتمتها بعد، ولن يكون مستغرباً أن يفاجئنا السيد جحا بقرار جديد، يضيف فصلاً آخر إلى سجل غرائب القرارات، لا إلى سجل العدالة الرياضية. ولم يتوقف المشهد عند حدود الأداء الفني أو الإداري، بل تجاوزه إلى مفارقة رمزية لافتة حين اعتمدت اللجنة المنظمة للبطولة تعويذة بشخصية “جحا”، الشخصية التراثية الطريفة التي ارتبطت دائماً بالمواقف الكوميدية والمفارقات قبل كرة القدم نفسه، فهل كان اختيار جحا مجرد مصادفة بريئة؟ أم أنه يعكس قراءة ساخرة لواقع المنتخبات العربية والخليجية التي خيّبت آمال جماهيرها بأداء هزيل في البطولة، حيث خرجت منتخبات كان يُنتظر منها تقديم مستوى قوي أو التنافس على اللقب. يبقى تساؤل أخير: إلى أي مدى نجحت تجربة السماح بوجود عشرة لاعبين محترفين أجانب في الأندية؟ وهل أسهمت فعلاً في تطوير اللاعب المحلي، أم أنها عمّقت أزمته؟ وفي المقابل، لماذا لم تنجح فكرة تسويق اللاعب السعودي للاحتراف الخارجي، رغم تكرار الحديث عنها؟ فالإنصاف يفرض التساؤل عمّا إذا كانت المشكلة محصورة في مدير فني أو مسؤول إداري، أم أنها أعمق من ذلك بكثير. أليست المشكلة بنيوية تمس كرة القدم المحلية ذاتها؟ نظام الاحتراف الحالي، الذي قلّص فرص مشاركة اللاعب السعودي وجعله احتياطياً في ناديه وأساسياً في المنتخب، كيف يمكن أن يصنع منتخباً تنافسياً؟ وهل يمكن لمنتخب أن ينجح بينما لاعبه لا ينمو في بيئة تنافسية حقيقية؟ التجربة الإنجليزية تفرض نفسها هنا: دوري هو الأقوى والأغنى عالمياً، لكنه لسنوات طويلة لم ينعكس قوةً على المنتخب. فهل كثرة الأجانب تصنع دورياً أسطورياً على حساب منتخب هش؟ ولماذا نكرر الدرس ذاته دون أن نتعلم منه؟!

د. عبدالله علي النهدي

عضو هيئة التدريب في معهد الإدارة العامة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى