
مكة تقرأ..
لا يتعامل مقال «الانتقالي فتح عشّ الانفصاليين» للكاتب عبدالرحمن الراشد، مع التطورات في جنوب اليمن بوصفها حدثًا ميدانيًا عابرًا، ولا يقرأ تحركات المجلس الانتقالي من زاوية عاطفية أو أيديولوجية، بل يضعها ضمن معادلة سياسية صلبة تحكمها الجغرافيا والديموغرافيا قبل الشعارات والبيانات.
ينطلق المقال من مسلّمة حاكمة تشكّل العمود الفقري للتحليل: ديمومة التأثير لا تُصنع بالقوة المؤقتة، بل بالجغرافيا. ومن هنا، يثبّت الكاتب السعودية بوصفها العامل الثابت في المعادلة اليمنية، لا باعتبارها طرفًا سياسيًا فحسب، بل باعتبارها واقعًا جغرافيًا لا يمكن تجاوزه، وهو ما يمنح النص إطارًا تفسيريًا يتجاوز اللحظة الراهنة.
يستخدم الكاتب التاريخ لا كاستدعاء نوستالجي، بل كأداة تحذير. فالعودة إلى تجربة التدخل المصري في الستينات، ثم المقارنة بتجربة الحوثي، ليست لإدانة أطراف بعينها، بل لإثبات فكرة مركزية: أي مشروع سياسي في اليمن، شمالًا أو جنوبًا، ينهار حين يتجاهل محيطه الجغرافي وعلاقاته الحيوية. في هذا السياق، يصبح الحوثي مثالًا مضادًا، لا نموذجًا، لأنه مشروع قائم على العزلة والارتهان الخارجي.
اللافت في المقال أنه لا يهاجم فكرة الانفصال ذاتها بقدر ما يُفكك أدوات إدارتها. فالمجلس الانتقالي، وفق قراءة الكاتب، لا يُدان لأنه يطرح مشروع دولة جنوبية، بل لأنه يختزل هذا المشروع في قيادة ضيقة وسلوك عسكري، متجاهلًا شرطين حاسمين: القبول اليمني الواسع، والتأييد السعودي. وبهذا ينتقل المقال من نقد الفكرة إلى نقد الطريقة.
يُظهر المقال وعيًا عميقًا بخطورة تفكك الجنوب من الداخل، إذ يحذّر من أن تحركات «الانتقالي» لا تهدد العلاقة مع الشمال فقط، بل تُفجّر الخلافات الجنوبية – الجنوبية، كما في حضرموت والمهرة. هنا يضع الكاتب يده على نقطة شديدة الحساسية: المشروع الانفصالي قد يُدمّر قاعدته الاجتماعية قبل أن يواجه خصومه.
كما يميّز المقال بين العمل السياسي والعمل الاستعراضي. فالتحركات العسكرية، كما يراها النص، لا تُنتج شرعية، بل توسّع دائرة الشك، وتغذّي خطاب التخويف، بل وتمنح خصوم «الانتقالي» مادة لمقارنته بمشاريع انقلابية أخرى. هذا التفكيك يُخرج المقال من خانة الرأي الانفعالي إلى خانة التحليل التحذيري.
وفي استحضاره لتجربة بريطانيا الاستعمارية في الجنوب، لا يُمجّد الكاتب الاستعمار، بل يستخدمه مثالًا واقعيًا على أن احتواء التعدد أصعب من قمعه، وأن بناء الكيانات السياسية في الجنوب لم ينجح تاريخيًا إلا عبر التوسيع والتمثيل، لا الإقصاء والقوة.
تتضح الوظيفة الأساسية للمقال في خاتمته: توجيه رسالة سياسية مباشرة مفادها أن الطريق الوحيد أمام «الانتقالي» ليس فرض الأمر الواقع، بل العمل من داخل الإطار الشرعي القائم، أي المجلس الرئاسي، وبناء توافقات داخلية وخارجية تسبق أي إعلان مشروع دولة. فالسؤال ليس فقط: هل يريد الجنوبيون الانفصال؟ بل: من سيحكمهم، وكيف، وبأي ضمانات؟
خلاصة القراءة
هذا المقال لا يُدين الجنوب، ولا يُبرّئ الشمال، ولا يُجامل الانتقالي.
إنه نصّ تفكيكي واقعي، يعيد ترتيب النقاش حول الانفصال من منطق الشعارات إلى منطق الدولة، ومن منطق السلاح إلى منطق الشرعية والتوافق.
وفي لحظة سياسية شديدة السيولة، يقدّم المقال قراءة باردة تُحذّر من أن أخطر ما يواجه المشاريع الكبرى ليس خصومها… بل أخطاؤها الداخلية.
————
جريدة الشرق الأوسط . السبت – 29 جمادى الآخرة 1447هـ – 20 ديسمبر 2025م.







