في مقالي السابق تناولت أهمية معالجة تهميش تعليم اللغة العربية وهي اللغة الأم لغة الهوية في المدارس الدولية وإعادتها إلى مكانها الطبيعي بدلًا من محاولات استبدالها باللغة الإنجليزية في تعليم العلوم في كافة المناهج في المدارس الدولية. أمّا في مقالي اليوم فسوف أسلّط الضوء على تجارب دولية ودراسات علمية عن أهمية اللغة الأم قبل تعلم أي لغة أخرى، وسوف أدعم الحجة بالعديد من الدراسات العلمية التي سلّطت الضوء على دور اللغة الأم في التطور المعرفي والاجتماعي والثقافي للطفل إذ أشارت تلك الدراسات إلى أن إتقان اللغة الأم يعزّز من القدرة على تعلّم لغات أخرى؛ فعندما يتمكّن الطفل من اللغة الأم بشكل قوي، سرعان ما يكتسب المهارات الأساسية مثل القواعد اللغوية والمفردات، مما يسهل عليه فهم هيكل اللغات الأخرى؛ ففي دراسة مهمة للعالم اللغوي الكندي Cummins (1979) الذي طوّر نظرية (الانتقال بين اللغات) أكّد على أن المهارات المكتسبة في اللغة الأم تنتقل إلى مهارات تعزّز تعلم لغة ثانية و ثالثة، بينما يهدّد ضعف مهارات اللغة الأولى تعلّم أي لغة أخرى، كما أنّ الفهم العميق للغة الأم يساعد الأفراد على التعبير عن أفكارهم بوضوح وثقة.
اللغة جزء أساس من الهوية الثقافية والانتماء الوطني، يركز على كون اللغة الأم هي وسيلة لنقل القيم الثقافية والتقاليد، فعندما يتعلّم الطفل لغته الأم أولًا، فإنه يطوّر إحساسًا قويًا بهويته الثقافية، مما يساعده على بناء الثقة بالنفس. وقد أكد على هذا الجانب بحث للعالم فشمن Fishman (1991)الذي بيّن أن اللغة الأم تلعب دورًا رئيسيًا في بناء الهوية الثقافية والحفاظ على التراث الثقافي؛ فمثلا عندما يتحدث الطفل لغته الأم مع والديه وأفراد أسرته، فإنه يشعر بالراحة والأمان النفسي، لأنّه يتواصل بحريّة دون قيود لغوية. ثم يأتي عامل مهم هو عامل الارتباط العاطفي والنفسي؛ فاللغة الأم هي الوسيلة التي يتواصل بها الأطفال مع أسرهم وأقربائهم في سنواتهم الأولى، وهذا الارتباط العاطفي يعزّز شعورهم بالأمان والاستقرار النفسي. وهذا ما أكدته أبحاث العالم الروسي Vygotsky (1978) الذي أشار إلى أن اللغة الأم هي الأداة التي يبني بها الطفل تفكيره وتواصله الاجتماعي في المراحل الأولى من حياته. فعلى سبيل المثال إذا تعلم الطفل لغته الأم أولًا – العربية مثلًا- فإنه يتمكن من فهم القصص الشعبية، الأمثال، والتقاليد المحلية، مما يجعله مرتبطًا بجذوره الثقافية قادرًا على التواصل بها بكفاءة وفعالية. وفي دراسة أجرتها اليونسكو أكدت أن التعليم بلغة الطفل الأم في المراحل المبكرة يؤدي إلى تحسين معدلات النجاح الأكاديمي وإلى تقليل معدلات التسرّب المدرسي، كما يعزّز من القدرة على التفكير النقدي؛ فاللغة الأم تُعتبر الوسيلة الأساسية التي يطور بها الأطفال مهارات التفكير النقدي والتحليلي. كما أكد بحث أجري في مطلع الألفية الجديدة Skutnabb-Kangas ( 2000) أظهر أنّ تعلّم اللغة الأم يعزّز المهارات الإدراكية، مما يجعل تعلم لغة ثانية أكثر سهولة.
اللغة الأم هي وسيلة لفهم الذات والتعبير عن الهوية، وعلى العكس من ذلك إذا فقد الطفل الاتصال بلغته الأم، فقد يشعر بفقدان الانتماء الثقافي. كما أظهرت أبحاث أخرى أن الأطفال الذين يتعلمون لغتهم الأم أولًا يتمتعون بثقة أكبر في أنفسهم ولديهم قدرة أكبر على التفاعل مع مجتمعهم
إنّ الجانب الأكاديمي الذي تسعى من أجله الأسر اليوم ،وتسدّد رسومًا باهظة للغاية للمدارس الدولية لا شكّ أنّه مرتبط بشكل مباشر باللغة الأم؛ فالأطفال الذين يتقنون لغتهم الأم يظهرون أداءً أكاديميًا أفضل في جميع المواد الدراسية، بما في ذلك تعلم لغات جديدة.
بناء على ما سبق أؤكد أنه لا توجد علاقة علمية بين تعلم اللغة الإنجليزية تحديدًا وبين النجاح الأكاديمي و تحقيق كفاءة استثنائية في سوق العمل، بل العكس هو الصحيح، فلا نكاد نجد دولة في أوروبا أو آسيا من الدول المتقدمة علميًا (ألمانيا أو فرنسا أو اليابان والصين) قدّمت أو تقدّم تعليم اللغة الإنجليزية على لغتها الأم، وبالأخص في مرحلة التعليم العام،. ويمكن تعدّد خيارات التعليم العالي.
سأدرج في مقالي التالي عددًا من الأمثلة حول أهمية تمسكنا بلغتنا العربية لغة الهوية الوطنية ولغة الدين والهوية ؛ فاللغة هي المعين الذي لا ينضب إذ شرفها الله بأن تكون لغة القرآن الكريم. وهذا من أكبر النعم.





