تمهيد:
شهدت المملكة العربية السعودية تحولاً غير مسبوق منذ إطلاق رؤية 2030، تمثل في إنشاء “الهيئة العامة للترفيه” عام 2016 بقرار ملكي. جاءت الهيئة لتحطم الصورة النمطية للمجتمع المغلق.
وقد أثار مجلس الشورى السعودي مؤخراً خلال مناقشة ميزانية هيئة الترفيه للعام الهجري 1445–1446هـ، تساؤلات مشروعة حول الأرقام المعلنة، حيث بلغت الاعتمادات أكثر من 1.67 مليار ريال، في حين لم تتجاوز الإيرادات 7 ملايين ريال فقط. رقم أثار علامات استفهام كثيرة، وأرى أنه رغم وجاهة هذا النقد، فإن تأثير الهيئة، في رأيي، يتجاوز الأرقام لأسباب سنطرحها هنا.
أولًا: موقفي الشخصي من الترفيه.. وتحفظ الأجيال
لا أخفي أنني كنت، كما كثير من أبناء جيلي، متحفظًا على بعض نشاطات الهيئة، تمامًا كما كنتُ ناقدًا في السابق لبعض ممارسات “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”. لكنني أدرك – وبشيء من الإنصاف – أن الزمن تغيّر، وأن الشباب السعودي (يشكّل أكثر من 70% من المجتمع)، هم المعنيون الأساسيون بهذه الفعاليات، لا من هم في سني ومزاجي. فليحكموا بأنفسهم، وليقرروا كيف يريدون أن يعيشوا زمنهم.
ثانياً: مهام الهيئة بين الطموح والتحدي
1. التنمية الاقتصادية:
– هدفها تحويل الترفيه إلى “قطاع اقتصادي مستقل”، يساهم بـ 4.8 مليار دولار في الناتج المحلي، ويخلق 220 ألف وظيفة بحلول 2030.
– تحويل 96.2 مليار ريال من الإنفاق السياحي الخارجي إلى الداخل، بعد أن كان السعوديون ينفقون 21 مليار دولار سنوياً في الخارج.
2 . التغيير الاجتماعي:
– توفير أنشطة ترفيهية للشباب (60% من السكان) الذين كانوا يعانون من نقص الخيارات سوى المقاهي أو الملاعب.
– كسر الروتين اليومي عبر فعاليات عائلية تتناسب مع الهوية الإسلامية والعربية.
3 . التمثيل الدولي:
– تحويل السعودية إلى وجهة سياحية عالمية عبر استضافة فعاليات كـ “فورمولا 1″ و”WWE” وحفلات فنانين عالميين مثل “BTS”.
ثالثًا: الإنجاز المالي ليس المؤشر الوحيد للنجاح
صحيح أن العجز بين الإنفاق والإيرادات يبدو كبيرًا، لكن من الخطأ اختزال دور الهيئة في معادلة ربح وخسارة تجارية.
ما تقوم به هيئة الترفيه يتجاوز الأرقام المباشرة، ليصل إلى منجزات غير مرئية (Intangible Outcomes) لا تقل أهمية عن الأرباح، مثل:
• تحسين جودة الحياة للمواطن والمقيم.
• تحفيز الاقتصاد غير النفطي عبر جذب الاستثمارات السياحية.
• توليد وظائف جديدة في قطاعات الفعاليات والفنون والخدمات.
• تحفيز الإنفاق المحلي بدلًا من سفر العائلات إلى الخارج بحثًا عن الترفيه.
معلومة موثقة:
موسم الرياض وحده في نسخته الأخيرة (2023) سجل أكثر من 12 مليون زائر، وحقق عوائد اقتصادية تجاوزت 6 مليارات ريال وفق تصريحات الهيئة الرسمية.
رابعًا: الترفيه كرافعة لتحسين صورة المملكة عالميًا
هنا نصل إلى ما أعتبره الإنجاز الأهم:
الهيئة العامة للترفيه نجحت – من حيث لم يُتوقع – في تغيير الصورة النمطية عن المملكة العربية السعودية في أعين العالم.
>التأثير الأبرز الذي أره وقد كنت مسؤولًا سابقًا عن الإعلام الخارجي، أعلم تمامًا أن “ما حققته هيئة الترفيه من خلال فعالياتها، وعروضها، وجرأتها في طرح وجه جديد للمجتمع السعودي، يفوق عشرات السنين من الجهود الرسمية في الإعلام الخارجي.”، وغيرها من الإجهزة الإعلامية الرسمية وغير الرسمية الأخرى.
“فالفعاليات الترفيهية مثل “موسم الرياض” أصبحت نوافذ إعلامية غير مباشرة، تعرض التنمية السعودية بلسان عالمي. وأصبحت هيئة الترفيه – بغير قصد مباشر – أقوى أداة “قوة ناعمة” سعودية، تفوقت حتى على الدبلوماسية الثقافية والإعلامية التقليدية.
خامسًا: تصريحات ولي العهد… وفلسفة التحوّل
لا بد هنا من التذكير بتصريحات سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الذي قال بوضوح إنه لا يقبل برؤية ضيقة للعالم تحرم الناس من متعة الحياة وتقدم باسم الدين أو العرف المجتمعي.
وقد قلت شخصيًا في مقال نُشر عام 2018، بعد مقابلة سموه في برنامج (60 دقيقة):
“لقد تأخرت علينا أيها الشاب الجسور أكثر من أربعين سنة… وما تحقق بفكرك وعزمك، تجاوز عقودًا من الزمن كان يمكن أن تُهدر في التردد.”
سادسًا: ملاحظات الشورى مشروعة… ولكن لا تلغي المكاسب
وأخيراً لابد أن أؤكد أن تساؤلات وملاحظات مجلس الشورى حول حجم الميزانية هي تساؤلات مشروعة، وعلينا الاستمرار في تعزيز الحوكمة والشفافية في صرف المال العام.
لكننا أيضًا بحاجة إلى تقييم شامل للنتائج، بما فيها:
• مردود الصورة الذهنية
• العوائد غير المباشرة (Indirect Benefits)
• إعادة تدوير الإنفاق المحلي
• تخفيف الاحتقان الاجتماعي عبر الانفتاح التدريجي
سابعًا: الإنفاق على المستقبل لا يُقاس باليوم فقط
ما يُنفق اليوم هو زرعٌ مستقبلي، يضع المملكة على خارطة السياحة العالمية، ويفتح أبوابًا جديدة لاقتصاد متنوع، ومجتمع أكثر انفتاحًا على نفسه وعلى العالم.
وإذا كانت هناك تجاوزات أو إسراف، فهي لا تُلغي الأساس السليم للتحول، بل تستدعي التصحيح لا الإلغاء.
هيئة الترفيه ليست مؤسسة تجارية بحتة، بل مشروع ثقافي-اجتماعي-اقتصادي يُعيد تعريف الحياة في المملكة. لذا عند النظر لنشاطات الهيئة يجب أن ننظر أبعد من الأرقام
1. الاستثمار في الصورة الذهنية:
– التكلفة الإعلامية العالمية لتحسين صورة دولة تقدر بمليارات الدولارات. الهيئة حققت هذا عبر وسيط غير سياسي: الترفيه.
2. تمهيد الطريق للاستثمار:
– الفعاليات الكبرى جذبت شركات مثل “سيرك دو سوليه”، التي دخلت كمستثمر بعد نجاح عروضها.
3. إعادة تعريف الهوية السعودية:
– الهيئة كسرت ثنائية “المحافظ vs المتحرر” عبر تقديم نموذج سعودي أصيل منفتح.
خاتمة: الترفيه كفعل ثوري… واستثمار لم يثمر بعد
الهيئة العامة للترفيه ليست جهة تنظيم حفلات، بل هي “أداة تغيير جيوسياسي واجتماعي”. النقد المالي مشروع، لكنه يغفل حقيقة أن:
– بعض الإنجازات “لا يقاس بالمال”، كتحرير الصورة السعودية من سطوة الصورة النمطية.
– العائد الاقتصادي الحقيقي سيظهر بعد 10–15 سنة، حين تصبح السعودية مركزاً ترفيهياً قائماً بذاته.
> كما قال ولي العهد الأمير محمد بن سلمان: “قطاع الترفيه سيكون رافداً مهماً لتغيير معيشة السعودي”. وهذا يستحق أن نعطيه وقتاً كي يثمر.
———
المصادر:
صحيفة سبق – مناقشات الشورى حول ميزانية هيئة الترفيه
Harvard Kennedy School – Joseph Nye: Soft Power
وكالة الأنباء السعودية – واس
CBS – مقابلة 60 دقيقة مع الأمير محمد بن سلمان (مارس 2018)



