جامعة الذكاء الاصطناعي.. هل هي حلم المستقبل أم ضرورة الحاضر؟
سؤال يفرض نفسه على كل من يتأمل التحولات العميقة في حياتنا العملية والتعليمية اليوم. فقد بات شغف الناس بتطوير الذات أكبر من أي وقت مضى، مدفوعًا برؤية المملكة 2030 التي حفزت أبناء الوطن لاكتساب المهارات الجديدة، ومواكبة سوق العمل ببرامج نوعية فرضها الواقع مثل الأمن السيبراني، والذكاء الاصطناعي، واللغات العالمية كالإنجليزية والصينية. ومع محدودية القبول في الجامعات، لجأ بعض الطلاب إلى الدراسة في الخارج على نفقتهم الشخصية بحثًا عن فرص أوسع مما يؤكذ شغفهم.
في المقابل، نلمس تسارع الأدوات الذكية التي تجاوزت حدود الخيال وأثبتت جدارتها في ميادين عديدة، مما يجعل فكرة «جامعة الذكاء الاصطناعي» ليست مجرد حلم مستقبلي، بل خيارًا استراتيجيًا قد يصبح قريبًا ضرورة لا يمكن تأجيلها.
فالناس اليوم يُقبٍلون على الذكاء الاصطناعي إقبالًا لافتًا، ويجدون فيه ضالتهم للإنتاجية وغزارة العمل، يدفعون اشتراكاتهم الشهرية طواعية مقابل قيمة يلمسون أثرها كل يوم، بينما ما زالت بعض الجامعات تكافح لإقناع طلابها بأنها تقدم لهم قيمة حقيقية. وأصبحنا نرى إبداع الذكاء الاصطناعي يتحول إلى أدوات تعليمية حقيقية، كما في إعلان شركة «OpenAI» مؤخرًا عن ميزة تعليمية جديدة في تطبيق شات جي بي تي تحت اسم «الدراسة معًا»، حيث بات الطلاب قادرين على التعلم بطريقة تفاعلية، خطوة بخطوة، مع شرح مبسط وحلول دقيقة.
لقد أثبت الذكاء الاصطناعي قدرات تتجاوز كثيرًا المعدلات البشرية العادية في مجالات بعينها، وأصبح ينافس – بل ويتفوق أحيانًا – على الأداء البشري فيها. ومن أبرز هذه المجالات: الإبداع النصي بأنماطه المتعددة من مقالات وقصص وتقارير وصياغات تسويقية وإعلانية بكفاءة عالية وسرعة مبهرة، والتحليل الإحصائي والبيانات باستخلاص الأنماط والتوصيات من قواعد ضخمة بوقت قياسي، والبرمجة بكتابة الأكواد وتصحيح الأخطاء واقتراح الخوارزميات بل وحتى تعليم المبتدئين. وما زالت هذه القدرات تنمو وتتطور يومًا بعد يوم، مما يبشّر بمستقبل قريب يحمل تفوقًا أكبر، وإمكانات ممتدة إلى مجالات جديدة.
ومن الجوانب المثيرة في فكرة «جامعة الذكاء الاصطناعي» أنها لن تقتصر على تعليم الطالب وحده، بل ستكون بيئة تعليمية ثرية للمعلم أيضًا. فالأدوات الذكية قادرة على تطوير أداء المعلم وصقل مهاراته بنفس الوتيرة التي تصقل بها مهارات الطالب. وفي كثير من الحالات، قد يتفوق الطالب على معلمه بفارق الشغف، والقدرات الذهنية، ورغبته العميقة في دخول سوق العمل والتكيف مع متطلباته. وهنا، يصبح التعليم ليس مجرد نقل معرفة تقليدية، بل سباقًا مفتوحًا نحو الإبداع والتميز.
الناس اليوم مرتبطون ارتباطًا وثيقًا بأجهزتهم الذكية، الجوالات والتابلت، ويبحثون عن مواد في متناول أيديهم، يمكنهم مراجعتها في أي وقت وأي مكان، وهذا يجعل فكرة «الجامعة الذكية» أكثر انسجامًا مع أنماط حياة الجيل الجديد. ومع ذلك، لا يعني أن التعليم سيكون سهلاً أو متساهلًا؛ فالجامعة الذكية لا تجامل. الذكاء الاصطناعي أمين في رصد الدرجات، دقيق في المراجعة، ولن ينجح في اختباراته إلا المبدعون الأذكياء حقًا، القادرون على التفكير النقدي وحل المشكلات.
قد يبدو المشهد اليوم خياليًا بعض الشيء، لكن إذا استمرت الجامعات في التباطؤ، واستمر الذكاء الاصطناعي بهذا التسارع، فقد نجد أنفسنا قريبًا أمام جامعة كاملة يديرها الذكاء الاصطناعي، وتنافس بجدارة في جودة مخرجاتها.
وربما يكون من الحكمة أن تكون البداية أكثر واقعية، عبر برنامج دراسي متكامل يُطلق داخل إحدى الكليات كنموذج أولي، على سبيل التجربة التقييمية في المرحلة الأولى، قبل اعتماده بشكل رسمي. هذا التدرج يتيح لنا تجربة المناهج، والتقييمات، وقياس جودة التفاعل بين الطالب والنظام الذكي، مع تعزيز الثقة بالمشروع والاستعداد التشريعي والمجتمعي له.
وفي كل الأحوال، علينا أن ندرك أن جامعة الذكاء الاصطناعي ليست بحاجة إلى مبانٍ أسمنتية بقدر ما هي بحاجة إلى عقول ذهبية، قادرة على أن ترى ما وراء الحاضر وتصنع المستقبل.


