المقالات

حين حلمت أن الجامعة تُدار بالذكاء الاصطناعي… واستيقظت على الأمانة التي أبت أن تحملها الجبال

في ليلةٍ غارقة في صمت التعميمات، نمت.

وفي الحلم، راودتني فكرة “عبقرية” لتوفير الميزانية وتحقيق الكفاءة التشغيلية:
ماذا لو أوكلنا كل قرارات الجامعة إلى الذكاء الاصطناعي؟
لا عمداء، لا وكلاء كليات، لا رؤساء أقسام، فقط “وكيل واحد” يتصدر كل شيء، يتحدث باسم الجميع، ويتخذ قرارات عليا نيابة عن كل الكليات، مهما اختلفت تخصصاتها وظروفها.

ولأنه يرى نفسه صاحب فكر “جديد”، ويأنف من تقليد من سبقوه، جاءنا بنموذج إداري موحد، منسوخ على الجميع، لا يفرّق بين قسم عمارة أو رياضيات، ولا بين طالبة سنة أولى أو باحث ماجستير.

المشهد كله بدا لي شبيهًا – بطرافة مريرة – بفيلم “غبي منه فيه”، بطولة هاني رمزي عام 2004،
حين يتخذ البطل قرارات لا يُدرك عواقبها، ويغوص في مواقف لا يفهم أبعادها، لكنه يظن دائمًا أنه “جاء بالجديد”.

وهكذا، في حُلمي، كانت الجامعة تُدار بشخص واحد… يديرها بنظام واحد… يفصل مقاسًا واحدًا للجميع.

● الجدول الصيفي؟
مُبرمج مسبقًا وفق خوارزمية لا تفهم تغيّر الظروف، حُرم فيه الطلاب الجُدد من التعديل، وكأنهم ليسوا من “الدفعة المستهدفة”.

● الأنظمة؟
تتغير في منتصف الفصل، دون سابق نقاش. “التطوير مستمر”، ولو على حساب الاستقرار.

● رئيس القسم؟
لا يملك صلاحية تعديل شعبة، ولا الرد على استفسار أكاديمي، ولا حتى رؤية ملف طالب…
كل شيء “قفلناه لأمان النظام”، كما يقول وكيل الجامعة.

● الجدولة؟
تُسند للذكاء الاصطناعي دون تدخل بشري.
النتيجة؟
أستاذ يحصل على محاضرة أول اليوم، ثم ينتظر ٦ ساعات حتى الثانية الأخيرة، ليعطي شعبة ثانية…
“نوفر له كل شيء… عشان يعطينا كل شيء” كما ورد في التعميم!

● تسكين المقررات؟
ليس حسب التخصص الدقيق، بل حسب “الإتاحة الفنية”.
دكتور التسويق يُعطى مقرر إدارة الجودة،
ودكتور البرمجة يُدرّس مهارات الاتصال،
والحجة: “كلكم دكاترة، والمادة مدعومة بالشرائح”!

● أما حضور أعضاء هيئة التدريس؟
فقد أُلزموا بالتواجد يوميًا حتى لو لم يكن لديهم محاضرات،
“لتحقيق الكفاءة التشغيلية”، وكأن الطاقة النفسية لا تُستهلك، وكأننا نُدير معملًا لا عقولًا.

**

وفي ظل هذا “التحديث الإداري الشامل”، تحوّلت العمادات من كيانات قيادية إلى محطات عبور،
والكليات من بيوت علم إلى صناديق بريد…
تتلقى القرار، وتُعيد توزيعه، ثم تصمت.

لكن في وسط هذا السيناريو، بدأت أستيقظ.

تذكّرت رئيس القسم حين كان يعرف طلابه، ويتابع خططهم، ويوازن بين الحمل الأكاديمي والمحتوى العلمي.
تذكّرت وكيل الكلية حين كان يعالج تداخلات الجداول، ويُنسق بين أعضاء هيئة التدريس، ويقود الاجتماعات بوعي إداري دقيق.
تذكّرت العميد، حين كانت له كلمة في المجلس الأعلى، وموقف في مجالس الجامعة، وصوت في تشكيل الهوية العلمية للكلية.

ثم أدركت الحقيقة…
القرار لا يُصاغ من فوق، ليُلبس الجميع مقاسًا موحدًا.
الجامعة ليست مصنع إنتاج متطابق، بل نسيج حي من التخصصات، لكل قسم خصوصية، ولكل كلية واقعها، ولكل مرحلة أكاديمية احتياجها.

الذكاء الاصطناعي ليس بديلًا للإنسان،
ولا القائد الأوحد بديلًا عن منظومة القيادة،
ولا المركزية وسيلة لكفاءة القرار، بل وصفة لتعطيل العقل الجماعي.

**

القائد الأكاديمي لا يُصنّع، بل يُبنى.
يتدرج من معيد يراقب، إلى أستاذ يبحث، إلى رئيس قسم يقرّر، إلى وكيل يفكر، إلى عميد يقود.

هكذا وحده يعرف قيمة القرار، وإمكانية التنفيذ، وتبعات الإجراء،
ويعرف أن ما ينفع في كلية الآداب لا يُطبق كما هو في طب الأسنان،
وأن ما يناسب طالب الشريعة لا يُنسخ لطالب الحاسبات.

**

في ظل رؤية 2030،
حيث وطن طموح، ومجتمع حيوي، واقتصاد مزدهر،
لا يمكن للجامعة أن تكون جسدًا بلا روح،
ولا عقلًا مؤتمتًا لا يسمع من تحته،
ولا مؤسسة يُقصى عنها من يعرف، ويُمنح القرار لمن يُجرّب فقط لأنه يملك التفويض.

**

الرؤية لم تكن تقنية فقط، بل كانت إنسانية قبل كل شيء.
رائحتها من فصولنا،
نَفَسها من جامعاتنا،
وأثرها لن يتحقق إلا إذا حمل الأمانة من يستحقها.

فإن كنا نُدرّس طلابنا أن الأمانة عُرضت على الجبال فأبين أن يحملنها…
فهل نُفرط فيها بهذه السهولة؟
وهل نُقصي من حملها عشرات السنين لنُجرب من لا يعرف وزنها؟

**

كتبت هذا المقال،
لا سخطًا… بل وفاءً لتاريخ من القادة الذين علّمونا أن التمكين لا يُضعف الهيبة، بل يُعليها.
الذين كانوا يناقشون، ويسألون، ويُشركون،
ثم يقرّرون… بثقة، لا بسلطة فقط.

**

لسنا ضد الذكاء الاصطناعي،
لكننا ضد أن نلغي الإنسان الذي يحمي التعليم.
نريد جامعة ذكية،
نعم…
لكن أذكى ما فيها: أكاديميوها.

حين حلمت أن الجامعة تُدار بالذكاء الاصطناعي… استيقظت على الأمانة التي أبت أن تحملها الجبال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى