لم تسقط اللعبة وحدها… سقطت معها يقظةٌ كنا نظنها قائمة. في مساءٍ من مساءات الطائف، وبين ضحكة طفل وصوت حديدٍ يدور في الهواء، انفرطت لعبة “360 درجة” من مفصلها، وارتطمت الأرض بمن فيها، وارتطم معها إحساسٌ عام بأن هناك من يفحص، ويراقب، ويطمئن.
ثلاثة وعشرون إصابة، ثلاثٌ منها حرجة، ومقطع واحد انتشر، كفيلٌ بأن يُعيد النقاش كله إلى المربع الأول: *من الذي فحص؟ من الذي أجاز؟ ومن الذي نام عن قنبلةٍ دُفنت تحت عنوان “الترفيه”؟*
ما حدث في منتزه الطائف الترفيهي لم يكن حادثًا عابرًا، بل تذكيرٌ بأن السلامة لا تكون شعارات حتى يُمسكها التنظيم، ولا تكون فِعلًا حتى تُراقبها جهات تُفكر وتُحاسب وتُصلح. وليس الحادث الأول. فقد سبقته سلسلة من الحوادث المؤلمة داخل مدن ألعاب، بعضها في جازان، وبعضها في المدينة المنورة، وبعضها أبعد من الخليج نحو أوروبا وآسيا، تتشابه جميعها في شيء واحد: الخلل لم يكن في الحديد… بل في غياب مَن يفحصه.
هذه الحوادث التي تفرقت جغرافيًا، توحّدها نتيجة واحدة: أن أنظمة السلامة لا تُقاس بعدد الإعلانات ولا بكثرة التصاريح، بل بوجود بنية صلبة من المحاسبة، والتدريب، والفحص، والمراجعة المستمرة، تحت كيان واحد، لا يترك فجوة تتسلل منها الحوادث لتصبح تكرارًا لا يُغتفر. ومن هنا لا نكتفي بالرصد، بل نحتاج إلى بناء… لا في المدن فقط، بل في الثقافة.
وفي 29 سبتمبر 2024، اشتعلت النيران في سوق جدة الدولي، أحد أشهر الأسواق العريقة في المملكة. نشب الحريق من محل تجديد، على يد عامل غير مرخص، وامتد إلى 255 محلًا تجاريًا، بينها أكثر من 100 محل ذهب. وخلال عملية الإطفاء، فقدنا اثنين من رجال الدفاع المدني السعودي، في مشهد لا يُنسى.
وفي مايو من العام نفسه، أصيب العشرات في حادثة تسمم غذائي بمطعم “همبرغيني” بالرياض، إثر تناول مايونيز ملوث ببكتيريا “كلوستريديوم بوتولينوم”، كما أعلنت وزارة الصحة وهيئة الغذاء والدواء. أُغلقت الفروع، وسُحب المنتج، لكن ما فُقد من ثقة المستهلكين لا يُسترد بتصريح أو ختم.
وفي سبتمبر 2019، اشتعل السقف في محطة قطار الحرمين الحديثة بجدة، وتمت السيطرة على الحريق بعد إصابة خمسة أشخاص، بلا وفيات. إلا أن الواقعة كانت صادمة، كون المحطة تعد رمزًا للتقنية الحديثة. الحريق فضح فجوة كبيرة في الجاهزية، ودفع إلى مراجعة الأنظمة، لكن بعد أن تصدعت الصورة.
*كل هذه الحوادث وغيرها تطرح سؤالًا مؤلمًا: من الجهة التي تملك الإطار الكامل للسلامة؟*
الدفاع المدني يرخص ويستجيب، الموارد البشرية تفتش، هيئة المواصفات تكتب، وزارة الصحة تتدخل، الأمن الصناعي يراقب المنشآت… *لكن من يملك زمام التنسيق؟ من يرخص للعامل؟ من يدربه؟ ومن يمنع المأساة قبل أن تبدأ؟*
في 2022، أُنشئ المجلس الوطني للسلامة والصحة المهنية بقرار مجلس الوزراء رقم 379، كأحد مخرجات البرنامج الوطني الاستراتيجي، وهو كيان يتمتع بصلاحيات تشريعية وتنفيذية، ويُشرف على إعداد اللوائح، والتنسيق، واعتماد التدريب، وتوثيق الإصابات والمخالفات، وبناء منصة وطنية موحدة. خطوة عظيمة… *لكنها حتى الآن لم تتحول إلى حضور ملموس.*
كم منشأة تدرك أن للمجلس صوتًا يُسمع؟ كم ورشة تطبّق اشتراطاته؟ لماذا لا تزال إصابات العمل تُدار خارج التأمينات الاجتماعية، فقط لتفادي تصنيفها القانوني، وما يتبعه من التزامات؟
بعض المنشآت ” وللأسف ” تعالج العامل خارجيًا، وتُسجل الإصابة كـ”عارض صحي”، وكأن الجرح لم يكن، وكأن تكراره قدر لا يُسأل عنه أحد.
لكننا لسنا غرباء عن الإصلاح.
فبعد حريق منى عام 1997، أُعيد تصميم المشعر كاملًا: خيام لا تشتعل، منع الطبخ، أنظمة إنذار، مسارات إخلاء.
وفي ملف السلامة المرورية، انتقلنا من أعلى نسب وفيات إلى نموذج يُشاد به عالميًا، بعد تطبيق “ساهر”، وتحسين الطرق، وتكامل البرامج التوعوية والتشريعية.
وأتذكر، في 2003، كنت متدربًا في قسم التخطيط بمصفاة رابغ في شركة أرامكو السعودية، وشاركت في الإعداد لاحتفال “مليون ساعة عمل بلا إصابة”، تحت رعاية الرئيس التنفيذي آنذاك المهندس عبدالله بن صالح بن جمعة الدوسري.
كل تفصيلة في الاحتفال، من توزيع الكراسي إلى مدّ الأسلاك، خضعت للفحص. وحتى مخالفات الموظف المرورية تُسجّل في تقييمه، وتؤثر على ترقيته؛ لأن السلامة هناك ليست وثيقة… بل سلوك يومي.
وتسير على النهج ذاته سابك، في مشاريعها الصناعية الكبرى، وشركة البحر الأحمر، التي تبني في بيئات معقدة بسجلات بيضاء، والهيئة الملكية للجبيل وينبع، التي تعد نموذجًا مؤسسيًا عالميًا بتكاملها بين الأنظمة، والتدريب، والرصد، والجودة.
نحن لا نحتاج إلى اختراع نظام جديد… بل إلى تفعيل ما بدأنا به، وتوسيع أثره، وربطه بالمنشآت والأنشطة والمهن والمواطنين.
نحتاج إلى توحيد الرخص، تفعيل المشرفين، تدريب المفتشين، تفعيل دور المجلس الوطني للسلامة والصحة المهنية كمنصة وطنية واحدة، وإرساء ثقافة تُخبر كل فرد أن السلامة ليست “مهمة جهة” بل “حياة وطن”.
وقد قال رسول الله ﷺ:
“صنائع المعروف تقي مصارع السوء.”
وما نزرعه اليوم من أنظمة، وثقافة، وتدريب، وتوثيق… سنحصده في وطن لا يعتذر بعد السقوط، بل يمنع السقوط قبل أن يكون.
حين يسقط الحديد… وتسقط معه الثقة: هل آن أوان السلامة؟
الجواب ليس في السؤال… بل في القرار.






