المقالات

زمن الطيبين

كنت أعتقد بأن من يتحدث عن الماضي الذي عاشه في صغره، أو حتى في شبابه ويحنّ إليه، إنما هو يهرب من حاضره. مثله مثل التاجر الذي ما أن يُفلس حتى يعود لدفاتره القديمة، فلعلّه يجد فيها ما يعيد له توازنه.
لكن لم يكن اعتقادي في محلّه. فرغم ما شهدته حياتنا من تطور وتسهيلات ووسائل ترفيه، إلا أنه وبمجرد التفكير في ذلك الزمن، تنتابنا حسرة على تلك الأيام الجميلة.

كنت أؤمن بمقولة “لكل زمان دولة ورجال”، لكني اكتشفت في لحظة تأمل، بأن هناك ذكريات لا تنتهي بانتهاء رجالها وحاراتها وبيوتها. تلك الذكريات لا تموت، كما لو كانت لها قلوب لا تزال تدق، ودماء لا تزال تنبض بالحياة.
زمن كانت فيه الحارة أشبه ببيت كبير، وكان الجيران فيه كعائلة واحدة. تربطهم النخوة والستر فيما بينهم، والغيرة على أطفال بعضهم البعض.

كان الجار يعرف متى عاد ابن جاره من المدرسة، ومتى مرضت ابنته، ومتى وماذا طبخت زوجته أو أمه. لم تكن هناك مواعيد للزيارة، ولا رسائل للاستئذان. كان الباب يُطرق بقوة محبة، فالمجلس كما يقال “بساط أحمدي”.

كانت القلوب غنية، والنفوس قوية، والقناعة كانت عنوانًا للسعادة. كل شيء كان بسيطًا. وكانت لعبة من خشب يصنعها الكبير للصغير، قصة يتناقلها الأطفال في تلك الحارة. لم يكن هناك ازدحام في الشوارع، بل ازدحام في الأرواح وامتزاج في علاقاتها. نلعب الكرة حفاة في أزقة ضيقة أو في ساحة لم تُبنَ بعد. نلعب وكأننا ملكنا الدنيا كلها.

كنا ننام في السطوح على فراش مشبع برطوبة قاتلة، نضع رؤوسنا على مخدات كاللوح الخشن، فننام قريري الأعين، كما لو كنا في فنادق فاخرة.

زمن الطيبين كان فيه الناس يتسامحون بكلمات بسيطة، ينسون خلافاتهم، يفتحون قلوبهم مهما كانت ظروفهم.

لسنا ضد التقدم والاستفادة من التطور الذي نشهده في كل فصول حياتنا. ولسنا نكابر ضد كل الاختراعات التي سهّلت حياتنا، والتي لا نتصور أنه يمكن العيش بدونها. لكننا بحاجة لاستحضار القلوب الطيبة، والنفوس المتصالحة، والبساطة المفقودة.
نحن بحاجة لعودة الروح للحارة وللجيرة. للقناعة، للتسامح، للمحبة التي أصبحت أسيرة للمصالح.

نعرف جميعًا بأن ذلك الزمن لن يعود، لكننا نستطيع أن نحييه في سلوكنا.. في بيوتنا.. في جيراننا.. في قلوب أطفالنا.

ولكم تحياتي.

• نائب رئيس تحرير جريدة اليوم سابقًا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى