المقالات

حين تُولد الحقيقة من رحم التراب

حين تُولد الحقيقة من رحم التراب، لا تعود الأرض مجرد مساحة تُباع وتُشترى، بل تصبح عهدًا بين الدولة ومواطنيها… أساسًا للثقة، لا ميدانًا للريبة، ولا مسرحًا للمضاربة.

في المملكة العربية السعودية، لا يُبنى الغد على المصادفة، ولا تُرسم المدن بالحظ، بل تُخطّ بالوعي، وتُدار بالبصيرة. ومنذ أن أطلق سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان – حفظه الله – رؤية 2030، تحوّلت الشفافية من فضيلة أخلاقية إلى عقيدة تنموية، وجُعل العقار دعامة لكل ركن من أركان الرؤية الثلاثة: مجتمع حيوي، واقتصاد مزدهر، ووطن طموح.

لكن… كيف يكون المجتمع حيًّا وشبابه يُلاحق حلم السكن كما يُلاحق السراب؟
وكيف يزدهر اقتصادٌ تُعامَل فيه الأرض كسلعة مزاج، لا كركن إنتاج؟
وكيف نُقنع المستثمر، والمواطن، والمخطط، إن كانت بيانات السوق موزعة بين منصات لا تتكامل ولا تتشارك الرؤية؟

نمتلك اليوم أطراف المعادلة، لكننا لا نمتلك المعادلة ذاتها.
• “إيجار” تنظم العلاقة بين المالك والمستأجر، لكنها لا تبوح بالحقيقة السعرية.
• “وافي” تتابع المشاريع على الورق، لكنها تصمت حين يتأخر الواقع.
• “فال” توثّق التسجيلات، دون قدرة على قراءة حركة السوق.
• “سكني” يعرض الحلم، لكنه لا يراقب تحقق الوعد.
• المؤشر العقاري يشير… لكنه لا يُنير.

كل جهة تمسك بخيط، لكن لا أحد ينسج القماش كاملاً.

سُئل الذكاء الاصطناعي عن عدد الفلل المعاد بيعها في دبي خلال 2024، فأجاب بدقة: 67 صفقة في الربع الأول. أما في السعودية، فصمت.
لا لجهله، بل لأن المعلومة لم تُمنح له.
الجهات لا تنشر، والبيانات لا تُجمع، والثقافة الإدارية لا تزال تتحسس من الشفافية كأنها خطر… لا فرصة.

حين تساءل المهندس أحمد بلفقيه عن عدد الوحدات المبيعة، وعن قيمتها، وعن سبب غياب الإفصاح، لم يكن سؤاله عتابًا، بل صرخة وطنية شريفة: لماذا لا نُفصح؟ لماذا أُغلقت صفحة اللجنة العقارية بدل أن يُفتح باب الرد؟ متى أصبحت المعلومة خصمًا للموظف بدل أن تكون عدسة للتخطيط، وأداة للمساءلة، وحقًا للمواطن؟

إن كنا نُفاخر بـ “مجتمع حيوي”، ونعوّل على “اقتصاد مزدهر”، ونتجه إلى “وطن طموح” يجذب الاستثمار العالمي… فكيف نُقنع المواطن أن يشتري، أو المستثمر أن يغامر، ونحن لا نعرف متوسط الأسعار ولا حجم التعثرات، ولا نملك مؤشرًا موثوقًا يُصنع عليه القرار؟

وهنا، تتّضح النقطة الفارقة:

ولي العهد، حين يتحدث أمام الكاميرات، لا يروي قصة… بل يستعرض واقعًا. لا يتوسّل الانطباعات، بل يُفصح بالأرقام.
يتحدث بمنطق الرؤية التي لا تُزيّف، ولا تُجامل، ولا تخشى الضوء.
هذه ليست بلاغة خطاب… بل منهج حوكمة، وروح قيادة، ومرآة لوطن يبني مستقبله بالبيانات الدقيقة لا بالأوهام.

ما نحتاجه ليس منصات جديدة… بل قرار يدمج الموجود.
قرار يربط “إيجار” بـ “وافي”، و“فال” بـ “سكني”، ويضع الجميع تحت مظلة سيادية واحدة، بإشراف مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، تنشر بيانات السوق أسبوعيًا كما تُنشر تقارير الاقتصاد والصحة.

نحتاج إلى مؤشر وطني للشفافية العقارية، محدث دوريًا، يُقارن عالميًا، ويُبنى عليه تصنيف المطورين كما تُبنى التصنيفات الائتمانية.

ونحتاج إلى تشريع يُدعى “نظام المعلومة العقارية الوطنية”، لا يُجرّم الفساد فقط، بل يُلزم بالإفصاح، ويحوّل المعلومة من سلعة مغلقة إلى حق مكفول لكل مواطن ومطور وصانع قرار.

ونحتاج إلى أدوات كالذكاء الاصطناعي والبلوك تشين داخل الهيئة العامة للعقار، لاكتشاف التقييمات المزيفة، ورصد المبايعات الوهمية، وتتبع مصادر التمويل المشبوهة.

لأن شحّ البيانات لم يعد خللًا تقنيًا، بل خطرًا استراتيجيًا يُربك المستثمر، ويُعطل التخطيط، ويُقصي المواطن، ويُبقي السوق رهينة الضبابية.

نحن لا نعيش لحظة بناء فقط… بل لحظة وعي ومراجعة.
لحظة تتطلب شجاعة في التغيير لا تقل عن الشجاعة في التأسيس. فكما نُعيد تعريف الطاقة، والسياحة، والذكاء الاصطناعي…
يمكن للعقار أن يكون النموذج الوطني القادم.

لا نطلب معجزة، بل نُطالب بقرار.
قرار يُعيد الحقيقة إلى صدر المشهد، ويمنح التراب منزلته… لا كسلعة، بل كهوية.

فهل تُولد الحقيقة من رحم التراب؟

الجواب ليس في السؤال… بل في القرار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى