المقالات

مجتمع المعرفة التربوي… خارطة الطريق الغائبة لتكوين المعلّم السعودي

كيف يمكن أن نرفع شعار مجتمع المعرفة ونسعى لبناء معلم قائد للتحول، بينما كليات التربية مغيّبة عن موقعها الطبيعي؟ وكيف نتحدث عن تعزيز الهوية الوطنية والقيم الأصيلة في المناهج، دون أن يكون المعلم مهيأً أكاديميًا وقيميًا لترجمتها في سلوكه وممارساته المهنية؟

هذه المفارقة تمثل أحد أبرز التحديات التي يواجهها التعليم السعودي في مرحلة التحول التي تقودها رؤية 2030 وبرنامج تنمية القدرات البشرية.

في التجارب العالمية المتقدمة، يتجاوز إعداد المعلم حدود التدريب إلى بناء معرفي وفلسفي عميق. ففنلندا لا تسمح بدخول المعلم الفصل إلا بعد إعداد بحثي صارم، وسنغافورة حولت معهدها الوطني للتعليم إلى مركز بحث وسياسات، وكندا ربطت تكوين المعلم بمشروعات العدالة التعليمية، فيما جعلت كوريا الجنوبية الإعداد التربوي جزءًا من مشروعها للتحول الرقمي والمعرفي.

لكن عند المقارنة بالنموذج العالمي، تبدو الفجوة واضحة؛ فقد توقفت السعودية عن برامج تكوين المعلم منذ عام 2019، وهو ما دفع المعهد الوطني للتطوير المهني التعليمي إلى عقد شراكات دولية لتعويض هذا الفراغ، كان أبرزها مع المعهد الوطني السنغافوري للتعليم لتطوير برنامج ماجستير مهني في التدريس، المقرر انطلاقه في سبتمبر المقبل.

ورغم قيمة هذه الشراكات، إلا أنها اتسمت بالطابع التنفيذي أكثر من المعرفي، مما جعل التحدي قائمًا في مدى قدرتها على مراعاة خصوصية المدرسة السعودية في بعدها الثقافي والاجتماعي.

ومن هنا تبرز الحاجة إلى إعادة رسم خارطة طريق تعيد التوازن بين التكوين المعرفي والتنفيذي. فالتعليم لا ينهض بمجرد التدريب، بل بتكامل الأدوار المؤسسية.

خارطة الطريق لا تكتمل إلا بتكامل الأدوار: كليات التربية عقل مفكر، المعهد الوطني للتطوير المهني التعليمي ذراع تنفيذ وتطوير، المركز الوطني لتطوير المناهج مرجع السياسات، وهيئة تقويم التعليم والتدريب ضابط للجودة.

ومجتمع المعرفة التربوي لا يقوم إلا بتكامل هذه المرتكزات في منظومة واحدة.

لكن مع وضوح هذه الأدوار، يظل السؤال: ماذا عن مضمون المحتوى نفسه؟ وهل ينسجم مع الهوية الوطنية؟

من هنا تأتي أهمية ما أكده توجيه سمو ولي العهد برئاسته لجنة عليا لضمان اتساق القيم في المناهج التعليمية مع القيم الأصيلة والهوية الوطنية.

هذا التوجيه يؤكد أن القضية ليست تقنية أو إجرائية، بل جوهرية تتعلق بالهوية والمرجعية. فالمناهج ليست مجرد أدوات لنقل المعرفة، بل أوعية لترسيخ القيم وتشكيل الهوية، ولا قيمة لها إذا لم يُعَد المعلم ليترجمها سلوكًا وممارسة مهنية داخل الفصل.

ورغم الخطوات التنظيمية الجديدة – مثل الماجستير التنفيذي في التدريس – يبقى التحدي في أن توفر هذه البرامج للمعلم تكوينًا فكريًا وقيميًا يوازي طموحاتنا الوطنية، وألا تقتصر على الجوانب المهارية والتنفيذية دون العمق الفلسفي الذي يرسّخ هوية المعلم الوطني القادر على قيادة التحول.

هذا التفاوت بين الطموحات المعلنة حول “مجتمع المعرفة” وواقع الممارسة اليومية يكشف الحاجة إلى تطوير متوازن يربط بين التدريب المهاري والبناء القيمي والمعرفي للمعلم. فالمعلم الذي نحتاجه اليوم ليس منفذًا لمقررات أو برامج، بل عقلًا وطنيًا مبدعًا يحمل القيم، وينتج المعرفة، ويقود التحول.

لقد آن الأوان لقرار وطني جريء يعيد كليات التربية إلى موقعها الطبيعي، ويمكّنها من قيادة الإعداد العلمي والمهني للمعلم. وعندما تتكامل المعرفة النظرية مع الممارسة الميدانية، في شراكات فاعلة مع المعهد الوطني للتطوير المهني التعليمي والمركز الوطني لتطوير المناهج وهيئة تقويم التعليم والتدريب، يتشكل المعلم القائد القادر على أن يجعل التعليم السعودي قوة مُنتِجة للمعرفة، لا مجرد مستهلكة لها.

• أستاذ القيادة التربوية المتقاعد
المدير العام التعليم بمنطقة مكة المكرمة ( سابقًا)

أ.د. أحمد بن محمد الزائدي

مدير إدارة التعليم بمنطقة مكة المكرمة سابقًا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى