المقالاتعام

التعليم السعودي… من تقليد التجارب إلى صناعة النموذج الوطني

حين ننظر إلى تجارب التعليم التي أصبحت اليوم نماذج عالمية، يغرينا أحيانًا اختصارها في إجراءات سريعة أو وصفات جاهزة يمكن نقلها كما هي. لكن الحقيقة أعمق من ذلك بكثير. تلك التجارب لم تُبنَ في الخارج، ولم تصنعها موجات إعجاب عابرة. نشأت من داخل وعيها بذاتها، وفي سياقاتها الثقافية والاجتماعية، ثم نضجت عبر سنوات طويلة من العمل والتطوير المتراكم حتى أصبحت ما نعرفه اليوم.

وهنا يظهر سؤال لا ينبغي تجاهله: لماذا نتصرف أحيانًا وكأننا أقل قدرة من تلك الدول على صناعة تجربتنا الخاصة؟

ولماذا نبحث عن عقل خارجي يفكر نيابة عنا، بينما نمتلك إمكانات وطنية كبيرة، ومؤسسات قوية، وكفاءات قادرة على بناء نموذج لا يقل قوة ولا عمقًا عمّا نعجب به في الآخرين؟

السعودية اليوم ليست دولة تبحث عن موقع لها في خريطة العالم. هي دولة ذات حضور مؤثر، واقتصاد متقدم، ومكانة قيادية معروفة. تتقدم في مؤشرات التنافسية والمعرفة، وتبني قاعدة علمية وبحثية واضحة تظهر ملامحها في أداء جامعاتها. وفوق كل ذلك، تمتلك المملكة إرادة سياسية واعية جعلت الإنسان السعودي محور الرؤية ومحرك المستقبل، ورأت في الاستثمار في رأس المال البشري خيارًا استراتيجيًا لا غنى عنه، ووضعته في قلب مشروع التحول الوطني.

وفي قلب هذه المنظومة تأتي هيئة تقويم التعليم والتدريب بوصفها جهة وطنية مستقلة ومحايدة؛ ليست طرفًا تنفيذيًا بل مرجعية معيارية عليا. دورها لا يقتصر على قياس الجودة، بل يمتد إلى بناء لغة وطنية مشتركة للمعايير، وضمان أن يكون الحوار حول التعليم قائمًا على الأدلة. تمنح هذه الاستقلالية النظام التعليمي “مرآة وطنية صادقة” تعيد تعريف النجاح بناءً على ما يتحقق فعليًا في تعلم الطلاب، لا على مستوى الخطاب أو الصورة.

هذه الركائز مجتمعة ليست مكاسب متناثرة، بل أساسًا متينًا لصياغة قصة سعودية خالصة في التعليم. لكنها تحتاج إلى رؤية وطنية واحدة تقودها، وإلى قدر من التناغم المؤسسي الهادئ بين الجهات العاملة في التعليم؛ لا بوصفه قضية مستقلة، بل باعتباره عامل قوة يحوّل الإمكانات المتاحة إلى نموذج وطني واضح يعبر عن هذا الوطن ولا يشبه غيره.

التحول التعليمي الحقيقي لا تصنعه العناوين الكبيرة ولا كثرة المبادرات. يصنعه وعي صادق بالذات وقدرة على رؤية الواقع كما هو. فنحن بحاجة إلى مرآة علمية ترى نقاط القوة ومجالات التحسين، وتقرأ ما يحدث داخل الصف وفي عقول الطلاب. ومن دون هذه الرؤية، قد تتحرك العجلة، لكن ليس بالعمق الذي نريده ولا بالاتجاه الذي نحتاجه.

إن بناء نموذج سعودي للتحول التعليمي ليس ترفًا فكريًا ولا اندفاعًا عاطفيًا. بل هو نتيجة طبيعية لوطن يمتلك المكانة، والقدرة المؤسسية، والعقل الوطني المؤهل، والإرادة السياسية التي وضعت الإنسان السعودي في قلب مشروع التحول الوطني. وهو الخيار الأكثر نضجًا في التعامل مع التجارب العالمية؛ نستفيد منها دون أن نذوب فيها، ونأخذ ما يلائم سياقنا ونترك ما لا يمثلنا، ثم نصوغ رؤيتنا التعليمية من داخل ثقافتنا، وحاجاتنا، ومستقبلنا.

والإضافة النوعية التي ينبغي أن تتبلور بوضوح هي أن النموذج الوطني لا يُولد بقرار سريع. يبدأ برؤية سعودية محددة للإنسان الذي نريد تكوينه، ثم يُترجم إلى مناهج تمنح العقل طاقة التفكير لا مجرد الحفظ، وإلى معلم يمتلك كفاءة تصنع الفارق داخل الصف، وإلى بيئة تعلم تؤمن أن الجودة تُقاس بما يحدث في العقول لا بما يُكتب في الوثائق. ويتكامل ذلك مع دور هيئة التقويم كمرجعية مستقلة تحافظ على صدق المسار، ومع الجامعات بوصفها العقل البحثي الداعم للتجربة، ومع قيادة تعليمية قادرة على تحويل الرؤية إلى ممارسة حقيقية.

عندها فقط يتغير السؤال: لماذا نستورد ما نستطيع أن نبنيه؟

ولماذا نستعير عقلًا ونحن نملك عقولًا وطنية قادرة على التفكير والتصميم والإنجاز؟

ولماذا نبقى أسرى تجارب الآخرين، بينما أثبت هذا الوطن — مرارًا — قدرته على صناعة قصته الخاصة حين يثق بذاته ويستثمر في إنسانه؟

نحن نملك الأساس الذي يُبنى عليه النموذج: إرادة سياسية واضحة لبناء الإنسان، مؤسسات راسخة، جامعات مرموقة، هيئة تقويم مستقلة تمتلك الخبرة والمعرفة، ومجتمع يؤمن بأن التعليم ليس خدمة إدارية، بل مشروع تحوّل وطني ومستقبل أمة. وما نحتاجه اليوم هو أن نثق أكثر بعقلنا الوطني، وأن نختار بوعي أن تكون قصة التعليم جزءًا من روح هذا الوطن، لا انعكاسًا لتجارب غيره.

وحين نمتلك هذه الثقة، ونمنح أنفسنا حق التفكير من الداخل، سنكون أمام قصة تعليمية سعودية لا تعيش في ظل أحد. قصة تبدأ من هنا، وتنتمي لهذا المكان، وتؤكد أن المستقبل لا يُستعار؛ بل يُصنع حين يعرف الوطن قيمته، ويثق بعقله، ويؤمن بأن ما لديه ليس أقل مما لدى الآخرين… وربما أكثر.

• المدير العام للتعليم بمنطقة مكة ( سابقاً)

أ.د. أحمد بن محمد الزائدي

مدير إدارة التعليم بمنطقة مكة المكرمة سابقًا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى