أطلق المعهد الوطني للتطوير المهني التعليمي برنامج “خبراء التطوير المهني” بالشراكة مع اتحاد الجامعات الفنلندية، مستندًا إلى دوره النظامي في قيادة التطوير المهني للمعلمين، ومستهدفًا تأهيل 110 ممارسين ليكونوا مدربين مركزيين ينقلون التدريب عبر شبكات تمتد داخل النظام التعليمي.
هذه خطوة تنسجم مع رؤية 2030 وبرنامج تنمية القدرات البشرية، وتعكس توجهًا جادًا نحو الاستثمار في المورد البشري التعليمي. ومع ذلك يبقى سؤال جوهري حاضرًا: هل يكفي إطلاق برنامج طموح لضمان أثر مهني عميق ومستدام؟ وهل نحن أمام مبادرة تدريبية محددة… أم مسار تطوير مهني متكامل يمكن أن يحدث فارقًا داخل الفصول ويؤثر على جودة التعلم فعليًا؟
النقطة الأساسية في قراءة البرنامج لا تتعلق برغبة التطوير ولا بحجم الشراكة، بل بطبيعة النموذج الذي يقوم عليه؛ فهو يعتمد نقل التدريب عبر مدربين مركزيين يعملون داخل شبكة تدريبية هرمية (Cascade Training). هذا النموذج مطبَّق عالميًا، وتُظهر الأدبيات المهنية الدولية أنه يحقق نتائج قوية عندما يكون جزءًا من منظومة مهنية واضحة لها إطار وطني للكفايات، وآليات متابعة للأثر، وترابط مباشر مع الترخيص والمسار المهني. أما حين يعمل بمعزل عن هذه المنظومة، فإن التدريب ينتشر، لكن أثره المهني عادة لا يبلغ مستوى الطموح.
وهنا يبرز سؤال موضوعي مشروع: أين الجامعات السعودية من هذا المسار؟
فالشراكة الدولية إضافة نوعية حين تُدار بعقل نقدي واعٍ، لكنها لا تُغني عن دور الجامعة الوطنية بوصفها المرجعية العلمية للتطوير المهني. ليس من الطبيعي أن يبقى العقل الأكاديمي الوطني على الهامش بينما تقود الجهات التنفيذية المشهد وحدها. ففي الأنظمة التعليمية المتقدمة تقود المعرفة حركة التطوير، بينما تدعمها القدرات التشغيلية والتنفيذية.
ومن هذا المدخل، يصبح من الطبيعي الحديث عن الدور الذي تقوم به شركة تطوير التعليمية ضمن هذا المشهد. فالشركة تمتلك قدرة تشغيلية ولوجستية واسعة، وخبرة تنفيذية كبيرة في إدارة البرامج الوطنية، وقد جرى توظيفها كذراع تنفيذية بغطاء قانوني وتمويلي وتنظيمي يدعم المعهد الوطني ويسهّل عمليات التمويل والصرف والمتابعة. هذا الخيار أسهم في تسريع الإجراءات وضمان الانضباط الإداري، وهو بلا شك عنصر قوة للنظام.
ومع ذلك، فإن قوة التشغيل تحتاج دائمًا إلى بوصلة معرفية تقودها. فالدور التشغيلي بطبيعته يُكمل الدور المهني ولا يحل محله؛ إذ إن أثر أي برنامج تطوير مهني يتعزز عندما تُدار فلسفته وسياساته ومعاييره من خلال جهة معرفية متخصصة، بينما تتولى الجهة التنفيذية — وفي مقدمتها شركة تطوير — تحويل هذه الرؤية إلى واقع تشغيلي منضبط وقابل للقياس. بهذا التوازن فقط يمكن حماية هوية البرنامج المهنية وضمان أن التنفيذ لا يسبق الفلسفة، وأن الكفاءة لا تأتي على حساب العمق التربوي.
كما أن سؤال التكلفة والعائد يظل سؤالًا مهنيًا ضروريًا. البرامج الدولية بطبيعتها عالية التكلفة، وهذا مبرر حين يقابله أثر ملموس يظهر في ثلاثة مستويات أساسية: تحسن في الممارسة الصفية، تطور في أداء المعلم المهني، وانعكاس إيجابي على تعلم الطلبة. فكيف سيُقاس هذا الأثر؟ وكيف سنعرف أن انتشار التدريب يقابله انتشار حقيقي في جودة التعليم، لا مجرد توسع في عدد المتدربين؟
ومن هنا تبدو أهمية دور هيئة تقويم التعليم والتدريب بوصفها الضامن الوطني للاعتماد والجودة؛ ليس بوصفها جهة إشراف إجرائية، بل بوصفها الجهة التي تربط التدريب بالمعايير المهنية الوطنية، وترتبط بالترخيص والمسار المهني، وتفعّل آليات قياس معلنة للأثر التعليمي. فعندما يصبح التدريب جزءًا من منظومة مهنية يُساءل أثرها وتُتابع نتائجها، فإنه ينتقل من نطاق المبادرات إلى نطاق السياسات.
وبهذا المعنى، فإن برنامج “خبراء التطوير المهني” يمثل فرصة وطنية مهمة. قوته في قدرته التشغيلية، وفي ما يعكسه من إرادة تطويرية واضحة، وفي ما توفره بيئته من غطاء قانوني وتنفيذي داعم. لكن قيمته الحقيقية ستتحدد بما سيُبنى حوله من إطار مهني وطني متكامل، وبمدى حضور الجامعات في صياغته معرفيًا، وبقوة منظومة التقويم التي تمنحه الاعتماد والرصانة والاستدامة.
عندها فقط يمكن القول إن التدريب لم يكن حدثًا مؤقتًا ولا نشاطًا محدود الأثر، بل جزءًا من مسار تحوّل مهني مستقر، ينعكس بصورة مباشرة داخل الفصول… وعلى تعلم الطلبة وجودة التعليم في الحاضر والمستقبل.
• المدير العام للتعليم بمنطقة مكة (سابقاً)





