حين يصمت الآباء، لا يعني صمتهم أنّهم مكتفون أو لا يريدون، بل قد يكون وراء ذلك حياءٌ رقيق، أو خوفٌ من إثقال كاهل الأبناء، أو رغبةٌ في البقاء أعزّة مكرّمين. وأحيانًا يختبئ ذلك الصمت خلف كلمة قصيرة: «شكرًا»، فيظنّها الأبناء نهاية الحديث، بينما هي في الحقيقة بداية نداء خفيّ للبرّ.
كثيرًا ما يصدّق الأبناء ظاهر الكلام، فيعتبرون أن الوالد أو الوالدة لا حاجة لهما، فيغلقون بابًا واسعًا من أبواب الإحسان. لكنّ البرّ ـ في جوهره ـ ليس استجابة لطلبٍ، بل استباق إلى رضا، وتلمّسٌ لما وراء الكلمات.
القرآن الكريم جعل برّ الوالدين من أعظم القربات، فقال:
﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء: 23].
والإحسان هنا، كما فسّره العلماء، يتجاوز الطاعة إلى المبادرة، وإلى إحاطة الوالدين بالرحمة والكرامة في حياتهما. والنبي ﷺ حين سُئل عن أحبّ الأعمال قال: «الصلاة على وقتها»، قيل: ثم أي؟ قال: «برّ الوالدين» [رواه البخاري ومسلم].
إنّ كلمة «شكرًا» هي رمز لصراع خفيّ: صراع بين حياء الوالدين وحرصهما على عدم الإثقال، وبين غفلة الأبناء الذين يرضون بالظاهر. الفهم العميق لهذا الصراع يجعلنا نوقن أن البرّ الحقيقي هو أن نقدّم الخدمة قبل أن تُطلَب، وأن نهدي قبل أن يُلمَّح، وأن نشاركهم حياتنا حتى لو كانوا على سرير المرض.
وقد حذّر النبي ﷺ من التفريط في هذا الباب، فقال: «رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة» [رواه مسلم].
فلنقرأ إذن صمت الآباء قراءة مختلفة، ولنُدرك أنّه نداء صامت ينتظر تجاوب الأبناء. فلنغتنم لحظات وجودهم قبل فوات الأوان، ولنجعل برّهم عادة لا مؤقتة، بل سلوكًا يوميًا يورّثنا رضا الله ورحمته.
رحم الله من رحل منهم، وبارك في أعمار من بقي، وجعلنا ممّن يُحسنون البرّ في السرّ والعلن






