«: يا ثوبي يا ساترني، يا بيتنا يا ساترنا»
النظام التعليمي والوظيفي عندنا اليوم أشبه بعينٍ أعمش؛ يرى بعض التفاصيل ويغيب عنه الكل. ألغيت امتحانات الثانوية الوزارية التي كانت معيارًا جامعًا، فجاءت اختبارات القدرات والتحصيلي. ثم داهمتنا جائحة كورونا بما خلّفته من فاقد، ثم أضيفت الفصول الثلاثة فأطالت زمن الدراسة لكنها لم تعالج الأساس. واليوم الذكاء الاصطناعي يكتب للطالب ويحل عنه فيضعنا أمام سؤال أكبر: ما المعيار الذي يمكن أن يقيس الإنسان السعودي حقًا؟
لقد اخترنا أن نسمّي المشروع «بصيرة»، ضد العمى والعمش، لأنها الرؤية النافذة التي ترى المشهد كاملًا. شعارها الإحسان في بناء الإنسان، أي أن التعليم لا يحاسب قبل أن يساعد، ولا يترك الطالب بلا رعاية، ولا يرهق المعلم بالمهام الشكلية، بل يلازم كل فرد حسب قدراته وميوله، ويتكيّف مع منطقته وظروفه، ويوسع مداركه على قدر مستواه الحقيقي، ويمنع اجتزاء المناهج أو تضييع الأهداف السنوية.
«بصيرة» ليست منصة تضاف إلى رصيف المنصات، بل مشروع القرن الجديد. سجل وطني سيادي يرافق الطالب من الروضة حتى التقاعد، يضم درجاته ومهاراته وميوله وأنشطته ومساره المهني. ملف مهاري وطني يصبح جواز مهارات سعودي معتمد في التوظيف والترقيات. لوحات قيادة حيّة لكل فاعل: الطالب والمعلم والمدرسة والجامعة والوزارة وسوق العمل. المدرسة تتحول إلى مختبر محلي للتميّز، والمعلم إلى صاحب سيرة تدريسية رقمية تعكس أثره ويحصل على دعم مخصص قبل أن يُحاسب، والجامعة إلى محور ابتكار تستقطب المواهب الحقيقية وتطوّر برامجها وفق بيانات سوق العمل، وعضو هيئة التدريس إلى مصمم تعلم ومرشد مهني توثق ممارساته لحظة بلحظة، والاعتماد الأكاديمي من موسم ورقي باهظ إلى اعتماد لحظي تُحدّثه البيانات تلقائيًا.
في سوق العمل تتكامل بصيرة مع التصنيف السعودي الموحد للمهن، فيصبح كل خريج مرتبطًا بمسمى وظيفي برمز وطني واضح. وبضغطة زر يعرف صانع القرار مؤشرات النمو: كم قائد محتمل لدينا، كم جراح مخ وأعصاب، كم رائد فضاء، كم رائد أعمال، كم شاعر وأديب. هذه ليست أحلامًا، بل بيانات حيّة تنبض من السجل الوطني.
وحتى نكون واقعيين، لسنا وحدنا في مواجهة هذه التحديات؛ أمريكا وكندا تعانيان فجوة بين التعليم وسوق العمل، بريطانيا واليابان تعانيان من تجزؤ المنصات، كوريا والصين من ضغط الامتحانات على حساب المهارات الناعمة. سنغافورة بنت نظامًا موجهًا بالبيانات لكنه أثقل طلابها بالاختبارات، فنلندا وفرت مرونة ومتعة لكنها تراجعت في الرياضيات والعلوم، إستونيا قادت تحولًا رقميًا لكنها لم تربط التعليم بالتوظيف بشكل متكامل. أما المملكة فاختارت أن تبدأ من حيث انتهوا: أخذت دروسهم، وتجاوزت حدودهم، وصنعت معيارًا سعوديًا جامعًا يوحد السجل الأكاديمي والمهاري للطالب من الروضة إلى التقاعد، ويجمع بين التقييم اللحظي والتوجيه المهني وسوق العمل، ويستخدم الذكاء الاصطناعي السعودي والبلوك تشين الوطني لتوثيق الشهادات والمهارات دون اعتماد خارجي، ويحّول التقييم من رقابي إلى تمكيني، ويبني سير ذاتية ذكية للطلاب منذ الابتدائي.
ولإثبات واقعيتها، فإن بصيرة لا تلغي مبادرات وزارة التعليم بل توحدها: من تطوير المسارات الثانوية إلى الطفولة المبكرة وبرامج الموهوبين ومنصة مدرستي والتعليم الشامل لذوي الإعاقة، إلى تطوير المعلم والمناهج وتعزيز القيم والشراكة المجتمعية، إلى التعليم الجامعي والبحث العلمي، إلى التعليم المهني والتقني، إلى التحول الرقمي والصحة المدرسية. كلها موجودة، لكن بصيرة تجعلها مسطرة واحدة تضعها في لوحة وطنية متكاملة.
ولي العهد الأمير محمد بن سلمان قال: “شبابنا هم العمود الفقري لوطننا، وطاقتهم هي التي ستقودنا إلى المستقبل.” وبصيرة هي الأداة التي تجعل هذا العمود الفقري قويًا، متينًا، مدعومًا بالمعرفة والمهارة، ومربوطًا بخطة وطنية واحدة.
ونحن على مشارف 2030، فإن هذه المبادرة لا تستجيب للحاضر فحسب، بل تفتح الباب لرؤى أبعد: 2040 و2070 و2100، لأنها لم تُبْنَ على معيار بريطاني أو أمريكي أو ماليزي، بل على معيار سعودي أصيل، خط الأساس الذي يبني الإنسان بالإحسان.
وهذا التوجه ليس غريبًا على المملكة؛ فقد شهدنا النقلة الحكومية الرقمية في «أبشر» و«توكلنا»، ورأينا كيف أصبحت «سدايا» مرجعًا وطنيًا للبيانات والذكاء الاصطناعي، وكيف تحولت الخدمات الحكومية إلى نموذج عالمي في الكفاءة وسهولة الوصول. كما نشهد المشاريع العملاقة التي تُعيد رسم خريطة المملكة: «نيوم» بمدنها الذكية كالـ«ذا لاين» و«أوكساجون» و«تروجينا»، و«القدية» كعاصمة للترفيه والرياضة والفنون، ومشاريع البحر الأحمر وأمالا كوجهات سياحية عالمية مستدامة، وبوابة الدرعية كتحفة ثقافية، ومشاريع الرياض الكبرى من مترو وحدائق ومبادرات خضراء. كلها شواهد أن المملكة تبني المستقبل بمنهجية متكاملة: بنية تحتية، ومشاريع نوعية، وتحول رقمي يقود إلى اقتصاد مزدهر ومجتمع حيوي ووطن طموح.
«بصيرة» تكمل هذا المشهد، فهي المشروع الذي يجعل بناء الإنسان على قدر طموح هذه المشاريع. فإذا كانت نيوم والقدية والبحر الأحمر تعيد رسم المكان، فإن بصيرة تعيد تشكيل الإنسان. وإذا كانت أبشر وتوكلنا اختصرت الوقت والجهد في التعامل مع الحكومة، فإن بصيرة تختصر الفجوة بين المدرسة والجامعة وسوق العمل، وتمنح الدولة القدرة على أن ترى أثر كل قرار لحظة بلحظة.
وهنا نستحضر كلمات ولي العهد الأمير محمد بن سلمان: “همة السعوديين مثل جبل طويق، ولن تنكسر إلا إذا انهد هذا الجبل، وهو ما يستحيل حدوثه.” وبـ«بصيرة» نثبت أن هذه الهمة ليست مجرد شعار، بل منظومة عمل تبني المستقبل وتؤسس لمعيار سعودي يفاخر به العالم.
«بصيرة» ليست تحسينًا محليًا، بل تعريف جديد للتعليم في عصر السيادة الرقمية. بها نعيد الثقة بين المدرسة والجامعة وسوق العمل، ونبني اقتصادًا معرفيًا متطورًا، ونفتح للعالم نموذجًا يُحتذى. وعندها فقط سنقول مطمئنين: يا ثوبي قد سترتني، ويا بيتنا قد حميتني






