المقالات

هيئة تنظيم الإعلام.. ميزان القيم في زمن الفوضى الرقمية

في ظل التحولات الرقمية المتسارعة، حيث أصبح المحتوى المرئي والمسموع في متناول الجميع، برزت الحاجة الملحة إلى جهة مسؤولة تتصدى للفوضى الإعلامية، وتعيد صياغة المشهد بما يتناسب مع قيم المجتمع وثوابته ، وهنا يأتي الدور المحوري الذي تؤديه هيئة تنظيم الإعلام، بوصفها صمام الأمان الذي يحمي الذوق العام من الابتذال، ويصون القيم من التلاعب، ويضبط بوصلة الإعلام نحو الاتجاه الصحيح.
لقد اتخذت الهيئة موقفًا حازمًا تجاه عدد من الممارسات الشائعة التي انتشرت عبر المنصات الرقمية والاجتماعية، والتي وإن بدت بسيطة في ظاهرها، إلا أنها تحمل في طياتها آثارًا اجتماعية ونفسية بعيدة المدى ، فلم يعد من المقبول التساهل مع المحتوى الذي يتضمن تنمرًا على الآخرين أو استهزاءً بكراماتهم، ولا مع من يعرضون خصوصيات الأسر أمام الجمهور بدعوى “الشفافية” أو “الترفيه”.
كما أظهرت الهيئة وعيًا بالغًا بمخاطر تصوير الأطفال والعمالة المنزلية، سواء في سياق سلبي أو حتى بطريقة تبدو إيجابية، فكل ذلك يُعد تعديًا على حقوق الأفراد، واستغلالًا غير أخلاقي للكاميرا ووسائل التواصل.
إن ما يُحسب للهيئة أيضًا، هو إدراكها العميق لتأثير الرسائل غير المباشرة، فالتحذير من التباهي بالأموال والسيارات والممتلكات، ومن استخدام لغة مبتذلة أو الإيحاء بالتفوق الطبقي أو المناطقي، ليس مجرد تضييق على الحريات كما قد يظن البعض، بل هو محاولة جادة لمنع تكريس مفاهيم سطحية بين أفراد المجتمع، لاسيما بين فئة الشباب الذين يتأثرون سريعًا بالمظاهر البراقة والمضللة.
وفي هذا السياق، جاءت ضوابط الهيئة بشأن اللباس المعروض في المحتوى المرئي، حيث أكدت أن ما يُعرض على الشاشات يجب أن ينسجم مع القيم والآداب العامة، فتم وضع خطوط واضحة تحظر إظهار الجسد أو ارتداء الملابس الضيقة أو الشفافة، انطلاقًا من قناعة راسخة بأن الاحتشام ليس مجرد تقليد اجتماعي، بل قيمة حضارية وأخلاقية ينبغي احترامها في الفضاء الرقمي كما تُحترم في الواقع.
المهم في أداء الهيئة لا يقتصر فقط على فرض العقوبات ، أو رسم الحدود، بل يتجلى أيضًا في دورها التوجيهي والتوعوي، فهي لم تكتفِ بالمنع، بل ساهمت في بناء بيئة إعلامية صحية تشجع على الإنتاج الهادف، وتمنح المجال للمحتوى الرفيع الذي يُعبر عن روح المجتمع، ويعكس وجهه الحضاري المشرق ، فالإعلام في رؤية الهيئة ليس ساحة مفتوحة للعبث، بل مساحة مسؤولة تُخاطب العقول، وتُشكل الوعي، وتؤثر في السلوك.
من هنا، يمكن القول إن هيئة تنظيم الإعلام نجحت في رسم ملامح مرحلة جديدة من التعامل مع المحتوى الرقمي، مرحلة تقوم على التوازن بين حرية التعبير واحترام القيم، بين الانفتاح ومراعاة الهوية، وبين الإبداع والانضباط الأخلاقي ، وهذه المعادلة، وإن بدت صعبة، فإن الهيئة أثبتت أنها ممكنة التحقيق متى ما وُجدت الإرادة، وتوفرت الرؤية، وتقدمت المصلحة العامة على الاعتبارات الفردية.
إن المجتمعات لا تُبنى فقط بالقوانين، بل تُبنى بالقيم، والإعلام هو مرآة تلك القيم ومؤشر على صحتها أو اهتزازها. وهيئة تنظيم الإعلام، بما تقوم به من جهد دؤوب تسهم بشكل فعّال في بناء مجتمع رقمي راقٍ، تحكمه المبادئ، وتحميه من الانحدار ، وتُهيئ لأجياله القادمة بيئةً أكثر وعيًا، وأكثر أمنًا ، وأكثر احترامًا لذاته.

د. فايز الأحمري

كاتب صحافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى