يُعَدّ مؤتمر ميونخ للأمن من أبرز الملتقيات العالمية التي تبحث قضايا الاستقرار والسياسة منذ ستة عقود، إذ يجمع قادة دول وخبراء استراتيجيات لمناقشة التحديات الكبرى التي تواجه العالم من نزاعات مسلّحة وحروب إقليمية إلى الإرهاب والتهديدات السيبرانية. وقد جاء انعقاده هذا العام في المملكة العربية السعودية ليؤكد أن الرياض لم تعد مجرد طرف معني بالشأن الإقليمي، بل أصبحت منصة دولية للحوار وصياغة الأمن العالمي.
وإذا كان اختيار المملكة لاحتضان المؤتمر يعكس ثقلها السياسي والاقتصادي، فإن اختيار العلا تحديداً يضيف بعداً رمزياً بالغ الدلالة. فالعلا ليست وادياً جميلاً في شمال غرب الجزيرة فحسب، بل متحف مفتوح يروي قصة حضارات تعاقبت على أرضها وتركوا إرثاً مكتوباً على الصخر. في الخريبة،وجبل عكمة ، وأم الدرج ، نقرأ نقوش الدادانيين واللحيانيين والثموديين والأنباط ،التي حفظت لنا أسماء ملوكهم وطقوسهم وتحالفاتهم، وسجلت أنظمة وقوانين محلية لهم، وفي معبد رُوَافة يقف النقش الثمودي التذكاري شاهداً على ذكرى انتصار الإمبراطورية الرومانية على الفرس، وهو حدث عالمي دوّن على أرض الجزيرة ليعكس أن العلا ومحيطها لم تكن معزولة، بل جزءاً من تواصل سياسي وحضاري واسع منذ قرون مديدة. هذه الشواهد كلها تقول إن
الأمن لم يكن يوماً قضية محلية، بل هاجساً إنسانياً مشتركاً ارتبط بالطرق الدولية والتجارة والتحالفات الكبرى، تماماً كما هو شرط لازدهار العالم اليوم.
ومن هنا يتضح أن المملكة إذ اختارت العلا مسرحاً لمؤتمر بحجم ميونخ للأمن، فإنها تبعث برسالة مزدوجة: الأولى أن الماضي والحاضر يتعانقان على هذه الأرض، وأن الحوار حول أمن المستقبل يستمد عمقه من ذاكرة التاريخ. والثانية أن السعودية قادرة على أن تجمع بين هويتها الحضارية القديمة ودورها الدولي المعاصر، لتثبت أن الأمن ليس ترفاً سياسياً بل شرط إنساني لدوام الحضارة.
إن ما يُناقشه المؤتمر من تحديات دولية وإقليمية، سواء تعلق بالحروب المشتعلة أو التهديدات العابرة للحدود أو المخاطر السيبرانية، يجد صداه في تاريخ العلا؛ فكما وثّقت النقوش الدادانية واللحيانية التحالفات لتأمين طرق القوافل، وكما سجل نقش رُوَافة الثمودي حدثاً سياسياً عالمياً بين الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية، فإن قاعات المؤتمر اليوم تسجل بيانات واتفاقيات
تسعى لتحقيق الغاية ذاتها: حماية الإنسان وصون العمران.
وهكذا يصبح المشهد متكاملاً: قاعات حديثة تحتضن نقاشات عن الأمن العالمي، وجبال صامتة تحمل نقوشاً عمرها آلاف السنين، وكلاهما يتحدث بلغة واحدة عن قيمة الاستقرار. وبين الماضي والحاضر تمتد رسالة المملكة للعالم: أن الأمن جسر الحضارات، ومن يُحسن قراءة النقوش القديمة قادر على أن يقود حوار المستقبل.






