المقالات

ضجيج المقهى ودفء الحوار” اعداد :ا.د.فتحية حسين عقاب

كنت في أحد المقاهي قبل أيام مع صديقتين من الوسط الأدبي ، نحتسي القهوة ونتبادل الحديث، حين تطرقنا إلى فكرة المقاهي الثقافية وبرنامج “الشريك الأدبي” الذي أطلقته وزارة الثقافة. وما إن ذُكرت الفكرة حتى اشتعل بيننا نقاش وديّ، لا يخلو من الحماس والاختلاف. كانتا ترى أن إقامة محاضرات وندوات في المقاهي تنتقص من مكانة الأديب وتشوّش هيبة الكلمة، بسبب ضجيج المكان واختلاط الجلسات العامة بأجواء الفكر والثقافة. أما أنا فكنت أرى العكس تمامًا، وأدافع عن التجربة باعتبارها محاولة جريئة لإعادة الأدب إلى الناس، ولتحريره من العزلة التي صنعها لنفسه بين القاعات والمنتديات المغلقة.

ذلك الحوار أثار في ذهني أسئلة كثيرة عن العلاقة بين الأدب والمكان، وعن الصورة الجديدة التي تمنحها وزارة الثقافة للمقهى حين تجعله فضاءً معرفيًا مفتوحًا. فبرنامج “الشريك الأدبي” ليس مجرد نشاط مصاحب أو ديكور ثقافي، بل إعادة تعريف للمشهد الأدبي السعودي، ونقل الوعي من محافل النخبة إلى فضاءات الحياة اليومية. وهنا تكتسب الفكرة عمقها الحقيقي: أن يصبح المقهى منبرًا حيًّا للحوار، تُتداول فيه الأفكار كما تُتداول فناجين القهوة، فيلتقي الكاتب بجمهوره وجهًا لوجه، وتستعيد الكلمة دفأها الإنساني.

ولأن الفكرة تحمل في جوهرها بعدًا تاريخيًا، وجدت نفسي أستحضر صورة المقاهي في القاهرة وباريس وبيروت زمن النهضة العربية، يوم كانت ملتقى الأدباء والفلاسفة ومختبرات الفكر الجديد. من تلك المقاهي انطلقت مجلات أدبية، وتكوّنت تيارات فكرية، وكان الحوار فيها أكثر صدقًا وحيوية مما في كثير من المنابر الرسمية. فالمقهى عبر تاريخه ظلّ يجمع النخبة والعامة على طاولة واحدة، ويمنح الكلمة طابعها الإنساني القريب من نبض الناس.

ومن هذا الاستدعاء للتاريخ، حضرت أمامي صورتان متناقضتان لاثنين من كبار الأدباء العرب، طه حسين ونجيب محفوظ، وكيف تعامل كل منهما مع المقهى بطريقته. فطه حسين، عميد الأدب العربي، لم يكن من روّاد المقاهي، إذ رأى أن الثقافة الجادة تحتاج إلى بيئة أكاديمية هادئة تحفظ للفكر اتزانه وهيبته. كان يفضل الصالونات الفكرية الراقية مثل صالون مي زيادة، حيث يُدار النقاش بلغة العقل والمنهج، بعيدًا عن صخب الشارع وضجيج العامة. بالنسبة إليه، المقهى مكان يليق بالحديث العابر لا بالمحاورة العلمية الرصينة.

أما نجيب محفوظ فكان يرى في المقهى امتدادًا لروحه الإبداعية، وفضاءً يختلط فيه الأدب بالحياة. هناك، في مقهى ريش أو الفيشاوي، كان يجد أبطاله الحقيقيين، يسمع أصواتهم، ويراقب ملامحهم، ليعيد بناءهم على صفحات رواياته. لم يكن المقهى عنده مجرد مكانٍ للجلوس، بل مختبرًا للحياة ومرآةً للمجتمع، منه يستمد شخصياته ولغته ونبض مدينته. كان محفوظ يؤمن أن الأدب لا يعيش في الأبراج العالية، بل في الشوارع والمقاهي والأسواق، حيث تتقاطع حكايات الناس وتتوالد الأفكار.

وبين هذين النموذجين يتضح جوهر السؤال الذي دار في ذلك الحوار البسيط مع صديقتي: هل يُفقد الأدب هيبته حين يخرج إلى العلن؟ أم أنه يكتسب عمقه الحقيقي حين يلامس حياة الناس؟ ما بين الرصانة الأكاديمية التي يمثلها طه حسين، والحميمية الشعبية التي يجسدها نجيب محفوظ، تتأرجح اليوم فكرة المقهى الثقافي في صورتها الحديثة.

وبرنامج “الشريك الأدبي” يبدو كأنه يبحث عن التوازن بين الصورتين، فيجعل المقهى منصة جادة ولكن غير متكلّفة، تحتفي بالكاتب دون أن تعزله، وتقرّب الأدب من جمهوره دون أن تبتذله. ففي المقاهي السعودية التي تحتضن اليوم الأمسيات الأدبية واللقاءات المفتوحة، يلتقي الجيل الجديد بالأسماء الراسخة، ويتحوّل المكان اليومي إلى فضاء للمعرفة، يؤكد أن الثقافة ليست حكرًا على النخبة، بل حقّ للجميع.

وهكذا، من ضجيج المقهى إلى دفء الحوار، ومن صالونات طه حسين إلى طاولات نجيب محفوظ، ومن مقاهي القاهرة القديمة إلى مقاهي الرياض الحديثة، تمتدّ حكاية واحدة عنوانها: أن الكلمة لا تفقد قيمتها حين تنزل إلى الناس، بل تستعيد معناها حين تُقال بينهم. فحيث تُسكب القهوة وتُتداول الأفكار، يولد الأدب الحقيقي، ذلك الذي يصغي للحياة ثم يكتبها كما هي، ناضجة وصادقة وحيّة.

أ.د فتحية بنت حسين عقاب

جامعة الملك سعود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى