أحيانًا لا تأتي الأفكار الكبرى من قاعات المؤتمرات ولا من أبحاث الجامعات، بل من لحظةٍ عابرة في بيتٍ هادئ، حين يرسل الأب لابنه مقالًا ويقول له بابتسامةٍ هادئة: اقرأ هذا المقال، ففيه فكرة تستحق التأمل.
هكذا بدأت قصتي مع هذه السلسلة، حين أرسل لي والدي – حفظه الله – مقالًا للعم الدكتور عصام الفيلالي في صحيفة مكة بعنوان «بين إمبراطورية المهندسين وإمبراطورية المحامين ودرس للعالم العربي في مواجهة التحديات العالمية». تناول فيه كتابًا صدر حديثًا بعنوان Breakneck: China’s Quest to Engineer the Future للكاتب الأمريكي من أصلٍ صيني دان وانغ، الذي يقدم مقارنةً مثيرة بين الصين والولايات المتحدة لا من زاوية الاقتصاد أو السياسة، بل من زاوية العقل الذي يدير الدولة: فالصين تُدار بعقلية المهندسين، وأمريكا تُدار بعقلية المحامين.
الأولى ترى التحدي كمشكلة هندسية قابلة للحل، والثانية تراه كقضية قانونية تحتاج إلى مرافعة. ولهذا، حين تواجه الصين أزمةً تُطلق مشروعًا، وحين تواجه أمريكا الأزمة نفسها تُطلق لجنة تحقيق. الصين تبني الجسور وتشيّد المدن في سنوات، بينما تنشغل الولايات المتحدة في النقاش حول مواقع الأعمدة وجدوى البناء. ومع ذلك، لم يكن جوهر الفكرة عند والدي المفاضلة بين دولتين، بل الدعوة إلى بناء ثقافة ثالثة تجمع بين انضباط المهندس وعدالة الفقيه وحكمة الأديب. فليس المطلوب أن نصبح نسخةً من أحد، بل أن نبتكر نموذجنا الخاص الذي ينبع من واقعنا وينسجم مع قيمنا وطبيعتنا.
تأملت هذه الفكرة وأنا أرى بلادي اليوم في قلب تحولٍ تاريخي تقوده رؤية 2030، لا على خُطى الصين ولا على طريقة أمريكا، بل بنهجٍ سعوديٍّ فريدٍ يبدأ من الإنسان قبل المكان. لم نبدأ بالتشييد بل بالتمكين، ولم نبدأ بالمشروعات بل بالمنهج. فالتجربة السعودية هندست التنمية من جذورها، حين أعادت بناء الإنسان كأهم موردٍ وركيزةٍ لكل مشروع. بدأنا بهندسة التعليم والتدريب، بتحويل المعرفة من تلقينٍ إلى مهارة، وبإعادة تعريف العمل من وظيفةٍ إلى إنتاجية، وببناء أنظمة تربط القرار بالبيانات وتقيس الأداء بالنتائج.
نحن لا نكرر تجارب الآخرين، بل نصمم تجربتنا الخاصة، مستندين إلى فهمٍ عميقٍ لطبيعتنا ومواردنا وإنساننا. نجحنا في أن نجعل من النفط طاقةً للتحول لا غايةً له، ومن الإنسان محركًا للاستدامة لا عبئًا عليها، ومن المعرفة وقودًا للتنافسية لا ترفًا فكريًا. هذا هو جوهر ما أسميه هندسة الأمة: أن تُبنى الخطط لا على التمنيات بل على الأنظمة، وأن تُدار الدولة كما تُدار شبكةٌ ذكيةٌ تعرف كيف توازن بين الطاقة والاتصال والقرار.
في هذا السياق، تظهر الهندسة الصناعية كتجسيدٍ دقيقٍ لفكر الرؤية ومنهجها. فهي لا تنظر إلى الآلة فقط، بل إلى المنظومة التي تجمع الآلة والإنسان والمعلومة معًا في إيقاعٍ واحد. هي التي ترى الترابط بين القرار والإحصاء، بين الموارد والإنتاج، بين الإدارة والتقنية. حين نتحدث عنها فنحن لا نصف تخصصًا أكاديميًا، بل أسلوب تفكيرٍ يقرأ الواقع كمنظومةٍ قابلةٍ للتحسين المستمر.
وأذكر هنا مثالًا يوضح ما أعنيه بـ “هندسة الأمة” حين تتجسد في تطبيقٍ وطني.
حين تعمل وزارة الإسكان مثلًا على تسريع تسليم الوحدات السكنية، فإن المهندس الصناعي لا يرى المشروع كأرضٍ ومبنى، بل كـ “نظام تدفق” يبدأ من أول خطوةٍ تخطيطية وينتهي بتسليم المفتاح. يدرس زمن كل إجراء، ويكتشف “عنق الزجاجة” في العملية، ثم يعيد تصميمها بحيث تنتقل المعلومة بسلاسةٍ من قسمٍ إلى آخر دون انتظارٍ أو ازدواجية. النتيجة: تقليص الوقت، خفض التكاليف، وتحسين تجربة المستفيد. وهذا بالضبط ما يفعله المهندس الصناعي حين يطبّق فكرته على مستوى الدولة لا المصنع.
ومع كل موسم قبولٍ جامعي، أجد نفسي في نقاشاتٍ طويلة مع أولياء الأمور والطلاب والطالبات يتساءلون: ما هي الهندسة الصناعية حقًا؟ هل هي إدارة أعمال؟ أم حاسب؟ أم رياضيات؟ وأسمع أحيانًا تعريفاتٍ لا تمت للتخصص بصلة، يقدمها من لم يدرسه أصلًا. لكن المفارقة أن كثيرًا ممن استهانوا به يعودون إليه لاحقًا بعد سنواتٍ من العمل، حين يكتشفون أنهم يفتقرون لأدواته، وأن كل من تولى منصبًا قياديًا يحتاج إلى طريقة تفكيرٍ هندسيةٍ تربط التفاصيل بالنتائج.
الهندسة الصناعية لا تحتاج من يدافع عنها، لأنها ببساطةٍ موجودة في كل مكان؛ في المصانع والمستشفيات والمطارات والموانئ والبنوك ومؤسسات الدولة والشركات الكبرى.
هي التخصص الذي يجمع بين دقة العلم وعمق الإدارة ورؤية الاقتصاد، وهو الوحيد القادر على التحدث بلغة المهندس والمدير والإنسان في وقتٍ واحد.
من يدخل هذا المجال من أي خلفيةٍ علميةٍ سيجد فيه امتدادًا طبيعيًا لتخصصه؛ من جاء من الحاسب سيجد أن البيانات والأنظمة مجاله، ومن جاء من العلوم سيجد أن النظريات أصبحت واقعًا، ومن جاء من الأعمال سيكتشف أن الإدارة تصبح أكثر فاعليةً حين تُدار بالأرقام لا بالحدس.
هذه هي فلسفة الهندسة الصناعية: أن ترى المشكلة كعمليةٍ قابلةٍ للتحسين، لا كأزمةٍ تحتاج إلى تبرير؛ أن تفكر في النظام لا في الجزء؛ وأن تجمع بين التحليل والفعل، بين النظرية والتطبيق. إنها التخصص الذي يحوّل البيانات إلى قرار، والقرار إلى عمل، والعمل إلى قيمةٍ مستدامة.
في الصين رأينا كيف قاد المهندسون دولتهم بعقل التصميم، وفي أمريكا رأينا كيف كبّلت البيروقراطية الإبداع بقيود الجدل، أما السعودية فقد اختارت طريقها الثالث: طريقًا يُهندس الموارد بعقلٍ إنساني، ويُهندس الإنسان بعقلٍ وطني، ويقيس التقدّم بالأثر لا بالتصريحات.
تلك هي فلسفة الرؤية السعودية التي حولت الطموح إلى نظام، والنظام إلى واقعٍ يمكن قياسه وتطويره.
وهكذا، لم تكن الرؤية مشروعًا اقتصاديًا فحسب، بل كانت هندسة وطنٍ أعادت صياغة العلاقة بين الإنسان والتنمية، وبين الطموح والعمل، وبين الموارد والمعرفة.
من رسالة والدي حفظه الله بدأت فكرة هذا المقال، ومن هنا تبدأ رحلتنا في هذه السلسلة الفكرية؛ ثمانية مقالات نمضي فيها من الجذر إلى القمة، ومن المصنع إلى الدولة، ومن المعادلة إلى القرار.
سأعرّف من خلالها الهندسة الصناعية كما عشتها ودرّستها، من واقع الخبرة والتجربة، مستعرضًا تخصصاتها الدقيقة، وكيف يسهم كلٌّ منها في صناعة النظام ورفع كفاءة المؤسسات وتحقيق أهداف الرؤية.
وهكذا نبدأ معًا فهم المعنى الأعمق لـ هندسة الرؤية… وكيف صاغت السعودية نموذجها الثالث بين الصين وأمريكا.






