في سنوات دراستي العليا كنت أبحث عن دراسة حالة سعودية أستشهد بها في أبحاثي. قلّبت المراجع العالمية فلم أجد عن وطني إلا القليل. كانت الأمثلة تتكرر: أمريكا، اليابان، كوريا، ماليزيا. أما السعودية، فكانت حاضرة في الواقع، غائبة عن الأوراق. كنا نبني أكثر مما نكتب، نُنجز قبل أن نحكي، فبقيت قصصنا العظيمة بلا من يرويها، وكأننا نكتب التاريخ بأفعالنا لا بحبرنا.
لكن المشهد تغيّر. لم تعد السعودية مادةً في أبحاث الآخرين، بل أصبحت مرجعًا بحد ذاتها. تجربتها اليوم تُدرّس، ومشاريعها تُقتبس، ومنهجها في هندسة التنمية صار أنموذجًا عالميًا، منهج يبدأ بالإنسان وينتهي إليه، ويتعامل مع التحديات كما يتعامل المهندس مع المخطط، يحلل ويصمم ثم يبني على اليقين لا على الاحتمال.
حين نتأمل رؤية 2030 ندرك أن عبقريتها ليست في حجم المشروعات، بل في منطقها الهندسي الدقيق. لم تكن مجموعة وعود بل منظومة مترابطة تجمع الاقتصاد بالتعليم، والصناعة بالثقافة، والإنسان بكل ما حوله. لقد هندست الرؤية العلاقة بين الوزارات كما يُهندس المهندس التروس داخل آلة ضخمة. كل ترس يدور في مكانه، مختلف في شكله ووظيفته، لكنه يسهم في حركة واحدة متناسقة تُسمى الوطن.
فالمهندس لا يعمل بمعزل عن غيره، بل يكمّل الطبيب في خدمة الحياة، ويعين القاضي في تحقيق العدالة، ويرافق المعلم في بناء العقول، ويترجم حلم الاقتصادي إلى معادلات إنتاج واستثمار. الهندسة ليست تخصصًا بين التخصصات، بل عقل منظم يربط الجميع بالنظام والدقة والمسؤولية.
أتذكر يوم قال لي والدي حفظه الله جملة لم أنسها: المهندس يا بني لا يجرّب، ولا يغامر بالعشوائية. إذا أخطأ الطبيب مات فرد، وإذا أخطأ المهندس قد تُهدم مدينة. كلمة واحدة كانت كفيلة بأن تغيّر علاقتي بالمسؤولية. منذ ذلك اليوم أدركت أن الهندسة ليست مهنة، بل ضمير حيّ. فالمهندس لا يمشي في الضباب، بل يرسم الطريق قبل أن يخطو عليه، يحسب المدى ويقدّر الحمل ويعرف أين تكون نقطة التوازن قبل أن يبدأ البناء.
ومن هنا فهمت رمزية خاتم المهندس، ذلك الطوق الحديدي الصغير الذي يلبسه المهندسون في كندا وغيرها. يُصنع من معدن خشن الملمس عمدًا ليذكّر صاحبه بأن الطريق إلى الكمال محفوف بالمسؤولية. ولا يُمنح إلا بعد أداء قسم مهني شريف، أن يعمل بضمير ويضع سلامة الإنسان والبيئة قبل أي مكسب، وأن يستخدم علمه لخدمة مجتمعه لا ذاته. ذلك الخاتم ليس زينة، بل تذكرة. ليس معدنًا يلمع على الأصبع، بل عهد أخلاقي يلمع في الوعي.
من يعمل مع مهندس مخلص يكتشف أن همه ليس تفريخ الأفكار، بل هندستها وتحويلها إلى واقع يمكن قياسه. المهندس لا يكره الحلم، لكنه لا يراه إلا مشروعًا حين تُصبح له معادلة. يُحب الأفكار كما يُحب الصانع الحديد الساخن، يشكّلها بعقله، يبردها بالحساب، ويصقلها بالنتائج. فالحلم عنده ليس ومضة عاطفية بل خطة قابلة للقياس. ولذلك لا يعيش بالعشوائية ولا يعمل بالمصادفة، فأول جسر يُبنى على العجلة هو أول جسر يُحكم عليه بالانهيار.
هذه الفلسفة نفسها انتقلت من عقول الأفراد إلى عقل الدولة. فالسعودية اليوم لا تدار بالشعارات، بل تُهندس بالأنظمة. تُخطط بواقعية لكنها تحلم بجرأة. تحوّل الرؤية إلى نظام، والنظام إلى أثر يُرى ويُلمس. لم يعد الطموح عاطفة بل معرفة تتحول إلى عمل. ولعل من أقدم الشواهد على هذا الفكر ما قامت به الهيئة الملكية للجبيل وينبع عام 1975، حين قررت المملكة إنشاء مدينتين صناعيتين متكاملتين تربطان بين الصناعة والتنمية البشرية. لم يكن المشروع صدفة بل تخطيطًا هندسيًا طويل المدى. واليوم، بعد نصف قرن، صارت الجبيل وينبع من أكبر المدن الصناعية في العالم، ببنية تحتية متطورة واستثمارات ضخمة وأحياء سكنية متكاملة تُثبت أن التنمية ليست مصانع فقط بل حياة تُدار بعقل هندسي متكامل.
وهذا ما عبّرت عنه بذكاء وبساطة الأميرة ريما بنت بندر آل سعود سفيرة المملكة في واشنطن حين قالت في مقابلة مع شبكة CNN إنها غادرت أمريكا عام 2005 وعادت إليها عام 2019 لتجد أن النقاشات لم تتغير: حقوق الإجهاض، السلاح، الرعاية الصحية… نفس المواضيع، نفس الجدل. بينما المملكة التي غادرتها تغيّرت في خمس سنوات أكثر مما تغيّرت في ثمانين عامًا قبلها. كانت ملاحظتها تلك أبلغ من التشبيه، إذ وصفت واقعًا يختصر الفرق بين عقلية تُنجز بالتصميم وعقلية تستهلك طاقتها في الجدل والتأجيل. لم تقلها بلفظ مباشر لكنها قالتها بمعناها العميق، حين رسمت الفارق الجوهري بين النموذج الذي يتجه نحو المستقبل بالفعل، والنموذج الذي يدور في حلقة النقاش.
واليوم تمضي المملكة على هذا النهج بثقة ووضوح. تحلم بالمستحيل لكنها تسير نحوه بخطوات محسوبة. فالأحلام هنا لا تُطلق تحت الأضواء، بل تُرسم على الألواح الهندسية. تُدار بالمعرفة وتُقاس بالنتائج، وتُنفذ كما تُنفذ المعادلات بدقة لا تحتمل الخطأ. لقد أصبح المستحيل مرحلة في التنفيذ لا في دفتر الأمنيات.
ومن هنا تبدأ رحلتنا القادمة في هذه السلسلة. فإن كانت “هندسة الرؤية” قد كشفت فلسفة النهج، و“هندسة الفكرة” قد شرحت منهج التفكير، ففي المقال القادم سنخوض في هندسة القرار، حيث تتحول المعرفة إلى عمل منظم، ويُصبح القرار نفسه عملاً هندسيًا يُبنى على المنهج لا على المزاج. فهكذا تُبنى الأمم: حين تتحول الفكرة إلى نظام، والنظام إلى عمل، والعمل إلى أثر يبقى.
وتلك هي هندسة الفكرة… التي منها انطلقت هندسة الرؤية، وبها صاغت السعودية نموذجها الثالث بين الصين وأمريكا.






