في البدء، لم تكن المشكلة في نقص التقنية،
بل في غياب النظام الذي يجمعها.
كانت البيانات تتكاثر كالجزر المنعزلة،
كل جزيرةٍ تكتب بلغتها الخاصة،
حتى جاء العقل الهندسي ليرسم الخريطة من جديد،
فيجعل من التعدد انسجامًا، ومن التشابك انتظامًا.
المهندس الصناعي يرى الدولة كما يرى الطبيب الجسد؛
يدرك أن كل وزارةٍ عضوٌ يؤدي وظيفته،
لكن الخطر الحقيقي يكمن حين يختل التواصل بين الأعضاء.
فالجسد لا ينهار لأن القلب توقف،
بل لأن الإشارة لم تصل في وقتها.
تلك هي فلسفة النظام التي تقوم عليها الهندسة الصناعية:
أن تعمل الأجزاء المختلفة كوحدةٍ واحدةٍ تعرف غايتها،
وتتعلم من نفسها، وتتحسن مع الزمن.
ولذلك، لا ينشغل المهندس بالآلة وحدها،
بل بالإنسان الذي يشغّلها.
ولا يرى المشروع كمبنى من خرسانةٍ وحديد،
بل كنظامٍ حيٍّ ينبض بالبيانات والقرارات.
إنه لا يشيّد الجسور فقط،
بل يربطها بالبشر الذين يعبرونها،
فالهندسة هنا ليست في المواد،
بل في الانسجام الإنساني قبل المادي.
وفي المملكة، يمكن رؤية هذا الفكر في كل زاويةٍ من المنظومة الحديثة:
في الحج، تُقرأ حركة الملايين لحظةً بلحظة لتتحول الفوضى المحتملة إلى تنسيقٍ مذهل،
وفي النقل تُدار ملايين الرحلات اليومية وفق أنماطٍ متوقعةٍ ومحاكاةٍ دقيقة،
وفي الصحة تُدار المستشفيات كشبكاتٍ ذكيةٍ تعرف حاجتها من الأطباء والأدوية قبل أن تُبلّغ بها،
وفي الموارد تُوزَّع الوظائف استباقيًا وفق معادلاتٍ توازن بين النمو الاقتصادي وفرص العمل.
كلها منظوماتٌ متصلة تعمل بتناغمٍ كأوتارٍ مختلفةٍ تعزف لحنًا واحدًا اسمه الوطن.
لكن كي تعزف الأوتار بتناغمٍ، تحتاج من يضبط الإيقاع.
ولعل من أعظم عِبر الزمان أننا عشنا زمنًا كان فيه كل مبرمجٍ يظن نفسه مُخلّص الأمة.
ما إن تخطر له فكرة، حتى يسهر ليلته ليصنع لها منصة،
ثم يأتي بعده مديرٌ جديدٌ فيقرّر ألّا يطوّر القديمة،
بل ينشئ منصةً أخرى “من الصفر”.
فتجد نفسك في نهاية المطاف بين أكثر من أربعٍ وثلاثين منصة،
كلٌّ منها تطلب اسمك وهويتك ورقمك وصورتك،
كأنك تزور دولةً جديدةً في كل دخول.
كانت البيانات تُنقل من منصةٍ إلى أخرى
كما كانت الرسائل تُرسل يومًا على ظهور الحمام الزاجل؛
تطير من نافذةٍ لأخرى،
ولا أحد يعرف هل وصلت أم ضاعت في الطريق.
ولأننا شعبٌ لا يعرف المستحيل،
كنا نملأ الحقول ونرفع الملفات،
وننتقل من منصةٍ لأخرى كما ينتقل الحاج بين المشاعر.
حتى صار الموظف إذا تأخر عن “تغذية المنصة” توقّف راتبه،
وكأن المنصة هي التي تُطعم الناس لا الناس من يُطعمونها.
كانت تلك مرحلةً تُدار فيها التقنية بعقلية “المبرمج المنعزل”؛
يرى المنصة مشروعًا قائمًا بذاته، لا جزءًا من منظومةٍ أكبر.
أما المهندس الصناعي، فلا يرى الأكواد بل يرى المنظومة،
لا يهتم بعدد المنصات بل بقدرتها على التحدث معًا بانسجامٍ واحد.
يسأل دائمًا:
“لماذا نبرمج؟ ولمن؟
وكيف نجعل التقنية تعمل للعقل لا العكس؟”
ومن رحم تلك الفوضى وُلد التحول العظيم.
حين جاءت الرؤية،
لم تُنشئ منصة جديدة،
بل هندست النظام كله من جديد.
هنا وُلدت منظومات مثل أبشر لتعلن نهاية زمن الحمام الزاجل،
وبداية زمن الدولة الذكية التي تتحدث بلغةٍ واحدةٍ
وتخدم الإنسان قبل الشاشة.
وعندها برز دور المهندس الصناعي ذلك العقل الخفي الذي يكتب اللحن الذي تعزفه الدولة كلها بانسجامٍ واحد.
هو من صاغ تدفق البيانات، ورسم خرائطها، وحدّد أين تبدأ وأين تنتهي.
هو الذي أدخل مفهوم ذكاء الأعمال كذراعٍ تنفيذية للفكر الهندسي،
يجعل المعلومة تُرى وتُقاس وتُترجم إلى قرارٍ حيٍّ في اللحظة ذاتها.
فعندما ترتفع مؤشرات حركة النقل في مدينةٍ ما،
تُصدر المنظومة إشعارًا استباقيًا.
وحين يوشك مخزون دواءٍ على النفاد،
ترسل الخوارزمية إنذارًا ذكيًا للموردين قبل الأزمة.
كل ذلك ليس صدفةً،
بل نتاج نظامٍ صممه المهندس الصناعي بعقلٍ دقيقٍ يرى الصورة الكاملة.
ذكاء الأعمال عنده ليس برنامجًا ولا لوحة تحكم،
بل منظارٌ يرى به الواقع في لحظته،
وجهازُ استشعارٍ يقرأ نبض الدولة.
هو الوعي الجديد الذي يجعل القرار متوازنًا بين السرعة والدقة، وبين الكفاءة والرحمة.
إن كل قرارٍ في الدولة الحديثة يعتمد على دقة هذه المنظومة:
في الحج تُقرأ الأرقام لتحديد التفويج الأمثل،
وفي المطار تُحسب أوقات الإقلاع والهبوط لتفادي التزاحم،
وفي الموارد تُوزع الطاقات البشرية بما يحقق أقصى إنتاجية،
وفي الصحة تُدار غرف العمليات وسيارات الإسعاف ضمن شبكةٍ ذكيةٍ تعرف أين الحاجة قبل أن تُطلب.
حتى الدفاع المدني، حين يوجّه فرقه في موسم الأمطار،
يستند إلى بياناتٍ حيةٍ تُحلل احتمالات الخطر لحظةً بلحظة.
هكذا تعمل المنظومة السعودية:
الكل يقرأ من شاشةٍ واحدةٍ،
ويتحدث بلغةٍ واحدةٍ،
ويتحرك لهدفٍ واحد.
الهندسة الصناعية ليست تخصصًا جامعيًا فحسب،
بل فلسفةٌ وطنيةٌ تُدار بها الدولة الحديثة.
هي التي جعلت النظام السعودي يتنفس بالبيانات،
يتعلّم من أخطائه، ويتحسن من ذاته،
ويعمل للإنسان قبل أن يعمل بالأرقام.
فكل معلومةٍ فيها مسؤولية،
وكل رقمٍ فيها أمانة،
وكل نظامٍ فيها خُلقٌ هندسيٌّ
يحفظ الانسجام بين التقنية والإنسان.
ومن هنا تبدأ الخطوة التالية في رحلتنا الفكرية…
فبعد أن هندسنا الرؤية والفكرة والقرار والنظام،
سنمضي إلى ما يجعل كل ذلك متزنًا وثابتًا في قيمه وأخلاقه .
إلى المقال القادم:
هندسة الإحسان… من الرقم إلى القيمة.






