المقالات

القيادة التكنوقراطية في التعليم السعودي: بين الكفاءة والوعي

يشهد التعليم السعودي تحولًا عميقًا في ضوء رؤية 2030 وبرنامج تنمية القدرات البشرية، اللذين جعلا التعليم محور بناء الإنسان وتمكينه للمستقبل. في قلب هذا التحول تتقاطع الكفاءة مع القيم، ويمتزج المنطق الصناعي بالفهم التربوي في محاولة لإعادة تعريف معنى القيادة التعليمية وأدواتها.

ليست الإشكالية في صرامة الإدارة، بل في منبع القرار ومنطقه: أهو فكرٌ يزن التعليم بميزان الإنتاج، أم وعيٌ يصوغ الإنسان بوصفه غايةً لا وسيلة؟

من هنا تتحدد الرؤية المنشودة: قيادة تجمع بين عقل التكنوقراطية وروح التربية؛ قيادة تُحسن التنظيم دون أن تفقد البصيرة، وتجعل من المدرسة فضاءً يُدار بالكفاءة ويُضيء بالوعي.

غير أن الواقع الميداني اتجه في مسارٍ مغايرٍ نسبيًا. فبدل أن ينبثق التوازن المنشود من داخل المنظومة التربوية، أخذت ملامح القيادة التعليمية تتشكل وفق منطقٍ إداري جديد؛ إذ انتقل مركز القرار من الفضاء التربوي إلى منطق الحوكمة الإدارية المستلهم من بيئات الأعمال.

وجاء هذا التحول استجابةً لرؤية وطنية تسعى إلى رفع الكفاءة وتعظيم الأثر وضبط المخرجات، لكنه حمل في طياته تحديًا جوهريًا: كيف يمكن أن تظل الكفاءة متصلة بجوهرها التربوي، فلا تتحول الحوكمة إلى غايةٍ تشغيلية تفقد التعليم روحه ورسـالته؟

ومع هذا التحول، برزت الحاجة إلى إعادة تعريف دور القيادة التربوية نفسها. فعلى امتداد العقود الماضية أسهمت هذه القيادة في بناء هوية التعليم وترسيخ قيمه، غير أن مركزية القرار وضعف الأدوات المؤسسية حدّا من أثرها. واليوم تُمنح الإدارة قوةً أكبر، غير أن الفاعلية لا تتحقق إلا إذا ظلت البوصلة إنسانية تربوية. فالقائد يحتاج إلى بصيرةٍ توازن بين الحوكمة والرسالة، لأن التعليم ليس مؤسسة إنتاج، بل منظومة قيمٍ وعلاقات تُقاس بعمق الأثر لا بعدد المؤشرات.

في هذا السياق، تبرز القيادة التكنوقراطية كنمطٍ إداري يُفضّل المتخصصين والخبراء في مواقع القرار، ويستند إلى البيانات والتحليل والمنهجية العلمية أكثر من الخبرة الميدانية أو الحسّ التربوي. ومع أن هذا النمط يُعزّز الضبط والكفاءة، إلا أن نقله إلى التعليم دون تكييفٍ تربوي كافٍ يُفرغ العملية التعليمية من بعدها الإنساني، ويحوّلها إلى منظومةٍ إجرائية جامدة.

فالصناعة تقوم على المدخلات والمخرجات في بيئةٍ مغلقة يمكن ضبطها، بينما التعليم يعمل في بيئةٍ بشرية مفتوحة تتغيّر بتغيّر الإنسان. وإخضاع التعلم لمعادلة الإنتاج يختزل النمو في الأداء، ويستبدل الحوار التربوي بالرقابة الإدارية، فتبهت روح التعلم ويضيع جوهره القيمي.

ومن هذا الاختلاف الجوهري بين طبيعة العملين ينبع تباين أعمق في الفلسفة التي تحكمهما؛ فالفكر الصناعي يقوم على فلسفة الضبط وتعظيم العائد، في حين ينطلق الفكر التربوي من فهم المنظومة التعليمية وسياقها الثقافي والاجتماعي. ومعادلة الكفاءة التي تصلح في المصانع لا تستقيم في التعليم، لأنه يُنفق ليُنشئ وعيًا لا ليُنتج سلعة. فالتعليم استثمار في الإنسان، لا مشروع كلفةٍ وعائد.

ومع هذا التحول البنيوي، تسلّل إلى الخطاب التربوي قاموسٌ جديد: مؤشرات الأداء، كفاءة العمليات، والفاعلية التشغيلية. وهي مفرداتٌ حسّنت الانضباط الإداري بلا شك، لكنها في المقابل أوجدت فجوةً متزايدة بين القيادة والميدان، بين ما يُخطط له في المكاتب وما يُعيشه الواقع المدرسي يومًا بيوم.

وتجلّت هذه الفجوة حين تقلّصت إدارات التعليم وأُلغيت مكاتبها، وتبنّي نموذج «الدعم التعليمي» بديلاً عن الإشراف التربوي. ورغم أن الإجراءات الجديدة رفعت كفاءة النظام الإداري، فإنها قلّصت التفاعل التربوي، وتحولت – في غياب هوية مهنية واضحة – إلى إجراءاتٍ تنظيمية محدودة الأثر.

وهنا يبرز سؤال جوهري: كيف يمكن للنظام أن يحافظ على طاقته التشغيلية دون أن يخسر عمقه التربوي؟

ولفهم هذا المشهد بصورةٍ أشمل، لا بد من النظر إليه ضمن الإطار العالمي. فالتعليم في السعودية ليس بمعزل عن تحولاتٍ مشابهة في أنظمةٍ أخرى. فقد أعادت دولٌ مثل فنلندا وكوريا الجنوبية وكندا تشكيل الإدارة التعليمية تحت ضغط الكفاءة والحوكمة، لكنها تجاوزت المأزق ببناء قيادةٍ متوازنة تجمع بين صرامة الإدارة ومرونة الفهم التربوي. هناك، أصبحت التقنية أداةً للفهم لا وسيلةً للرقابة، والبيانات وسيلةً للتحسين لا غايةً للقياس.

وانطلاقًا من هذه التجارب، تبرز الحاجة إلى نموذجٍ وطنيٍ متوازن يعيد الاعتبار للبعد التربوي دون أن يتنازل عن كفاءة الإدارة. فالمستقبل لا يرفض التقنية ولا الحوكمة، لكنه يتطلّب ترويضهما معًا في خدمة الإنسان المتعلم، لا العكس.

إن الرؤية المستقبلية للقيادة التعليمية في السعودية ينبغي أن تتجه نحو دمج عقل التكنوقراطية بروح التربية في نموذجٍ جديد للقيادة بذكاءٍ مزدوج: تكنوقراطي في الإدارة، وتربوي في الجوهر. قيادةٍ تجمع بين الانضباط المؤسسي وقدرة الإلهام، وتقرأ البيانات لا لتصدر الأحكام، بل لتفهم الواقع وتطوّره.

وحين تُقرأ الأرقام ببصيرةٍ تستوعب الإنسان قبل المؤشر، تتحول من قياسٍ جامد إلى وعيٍ يوجّه ويُلهم. تلك هي القيادة التي تليق بعصر التحول، وتجسّد رؤية وطنٍ يصوغ تعليمه بالكفاءة ويُنيره بالوعي.

أستاذ القيادة التربوية
المدير العام للتعليم بمنطقة مكة – سابقًا –

أ.د. أحمد بن محمد الزائدي

مدير إدارة التعليم بمنطقة مكة المكرمة سابقًا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى