هبّت الريح فملاحٌ شكا وملاحٌ شكر،
ليس في الريح ولا في البحر، بل في هوى الأنفس ما ساء وما سرّ.
كان يا ما كان في قديم الزمان، وإن لم يكن بعيدًا، زمنٌ ننتظر فيه الختم أكثر مما ننتظر النتيجة. نحمل الملف العلاقي الأخضر، ونملأه بالأوراق والصور والتواقيع، ونخرج بعد صلاة الفجر لنحجز مكانًا في الطابور. نراجع العمدة لأخذ الختم، والمدرسة لتعريف الأبناء، ويُطلب حضور شهودٍ للتثبّت من النسب فيجلسون معنا أمام الموظف يروون ما يعرفون. كانت المعاملة رحلةً طويلة تبدأ من الحي وتنتهي بعد أيام في الدوائر الحكومية. ولم يكن الثمن وقتًا وجهدًا فحسب، بل اقتصادًا مُعطّلًا؛ فكل يومٍ في طابور هو يوم مفقود من الإنتاجية الوطنية، وكل ختمٍ كان يُنجز معاملةً لكنه يؤخر عشرًا. كان الإنجاز يُقاس بعدد الأختام، بينما كانت الخسارة تُقاس بحجم الفرص الضائعة.
هبّت الريح، فتغيّر الاتجاه.
من البيت أو المكتب أفتح هاتفي وأكمل ما كان يحتاج أيّامًا في دقائق. في السياحة البحرية، التي كانت في السابق من أعقد الإجراءات، أصبحت معظم الخطوات إلكترونية بالكامل. أرفع الهوية وعقد الشراء في منصة النقل، وأنتظر سند التملك، ثم أرفع البيانات إلكترونيًا إلى هيئة الاتصالات والفضاء لإصدار الرخصة اللاسلكية، وأنتظر عشرة أيام عمل لأن فرزهم ومعالجتهم يدوية لقطاع الأعمال، ثم أعود إلى منصة وزارة النقل بالرخصة اللاسلكية والسجل التجاري لطلب رخصة العمل البحرية. كل جهة تعرف دورها، وكل منصة تؤدي عملها بتميز ورُقي، ثم تتجمع في النهاية جميع الأوراق مطبوعة من صاحب المصلحة أو من ينيبه بتوكيلٍ صادر من “ناجز” مصحوب بصورة بطاقة الأحوال، لتُسلَّم يدويًا إلى قطاع سلاح الحدود، الجهة الأخيرة لاعتماد الإبحار وإصدار التصريح النهائي، والى العام المقبل لتكرار نفس الاجراءات من المنزل او المكتب للقطاعات الحكومية ومن ثم قطاع سلاح الحدود للاعتماد.
هبّت الريح، فملاحٌ شكر.
وفي المقابل، نرى التكامل شبه الكامل في تجديد إقامة المقيمين. تبدأ العملية من التأمين الطبي، ثم تنتقل إلى وزارة الموارد البشرية، فإلى منصة قوى التابعة للموارد البشرية، لتتجمع تلقائيًا في منصة مقيم التابعة للداخلية. هناك تُحدَّث البيانات في الخلفية دون ورقةٍ واحدة، وفي بعض الأنشطة التي تتطلب كرتًا صحيًا، تنتقل المعلومات مباشرة إلى منصة بلدي لاستكمال المتطلبات. لا مراجعة، لا طباعة، لا انتظار. مشهد يجعل من الماضي ذكرى ومن البيروقراطية درسًا لا يُعاد.
وبفضل الله ثم بجهود المخلصين حين توحدت الرؤية وتكاملت الأنظمة، أصبحت في خدمة الإنسان بإحسانٍ وتعميرٍ للأرض، بعيدًا عن البيروقراطية ومشقّات الورق.
هبّت الريح، فملاحٌ شكر.
أما منصة أبشر أفراد، فهي الوجه الذي يستحق أن تُرفع له القبعة احترامًا. ليست مجرد تطبيق، بل قصة نجاح وطنية مكتملة التفاصيل. جددت جوازَي ابنيّ من البيت، الأصغر في السادسة والأكبر تجاوز العاشرة. النظام ميّز بين الحالتين تلقائيًا، سمح بتجديد جواز الأصغر فورًا، وطلب بطاقة هوية للأكبر قبل التجديد. رفعت الصور وسددت الرسوم وحددت الموعد، وانتهى كل شيء في دقائق. بل فتحت المنصة خيار استخراج بطاقة للابن الأصغر أيضًا دون أن أطلب. كل خطوة كانت محسوبة، كل إشعار جاء في وقته، وكل خدمة انتهت دون مراجعةٍ أو تكرارٍ أو خطأ. ذلك الإتقان الذي لا يشعر به الناس إلا حين يختفي العناء، هو ما يجعلنا نرفع القبعة لفريق أبشر، فقد جعلوا التقنية أقرب إلى روح الإنسان منها إلى الآلة، وأثبتوا أن الاحتراف لا يعني السرعة فقط، بل الدقة التي تُطمئنك أنك في يد دولةٍ تفهمك.
وهنا تهب الريح من بوابة الرؤية.
ليس الهدف أن نُنجز أسرع، بل أن نُنجز بذكاءٍ يليق بعصرنا، دون أن نفقد أصالة ما كنا عليه.
هذا هو منطق الرؤية التي صاغها سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان حفظه الله حين قال:
«لن نرتاح حتى نضع المملكة في مقدمة دول العالم،
سنبنيها كما نحلم، وسنجعل كل ما نحلم به واقعًا يعيشه الجميع.»
هي كلمات لم تبقَ شعارًا في وثيقة، بل أصبحت نَفَسًا يوميًا في حياة كل مواطن، من فاتورةٍ تُدفع في لحظة، إلى جوازٍ يُجدد في دقائق، إلى منصةٍ توصل الدولة إلى بيتك.
هبّت الريح مرة أخرى، فأشارت إلى المستقبل.
هناك، تبرز الحاجة إلى منصةٍ وطنية موحدة تجمع هذه المنصات كلها في جسدٍ واحد يتكلم بلغةٍ واحدة. وهنا تولد فكرة «إلِمَام»؛ اسمٌ عربيٌّ يحمل روح الاجتماع والتكامل، وكلمة تختصر فلسفة الدولة الجديدة.
فيها الحرف “ل” يرسم اللوجستية وهي تسري في عروق الخدمات كما يسري الدم في الجسد،
والحرف “إ” يوصل الجهات ببعضها كما توصل الأعصاب بين الحواس والعقل،
والحرف “م” يمنحها مركزيةً تحفظ النظام وتبني التناغم دون أن تُقيد الحركة،
ثم يأتي الحرف “آ” كنبضٍ آنيٍّ يواكب اللحظة ويختصر الزمن،
أما الحرف “م” الأخير، فهو موثوقية الوطن حين يحفظ بياناته في بيته لا في الغياب.
«إلِمَام» ليست منصة تضاف إلى غيرها، بل عقلٌ رقميٌّ وطنيٌّ واحد يجمع الشاشات والجهات في تجربةٍ متصلة لا تنكسر.
هبّت الريح، فملاحٌ شكر، وملاحٌ حلم.
ومن بين الموج والضوء، يتشكل الغد كما أراده ولي العهد: وطنٌ يحلم ليعمل، ويعمل ليحلم.
لم تعد القصص تُروى كما كانت، فقد صارت تُكتب بيد كل مواطن ينجز من بيته ما كان يومًا ينجز بورقة وختم.
هبّت الريح، لا لتقلب الصفحات، بل لتفتحها على فصلٍ جديد من الحكاية،
حكاية وطنٍ لم يكن يومًا يتتبع البحر، بل كان يصنع المدى.






