المقال السادس في سلسلة هندسة الرؤية
في كل بيئةٍ يعمل فيها الإنسان، هناك لغة لا تُقال بالكلمات، بل تُقال بالحركة.
زاويةُ الجسد، ارتفاعُ المقعد، اتجاهُ الضوء، شكلُ الأداة
كل تفصيلٍ صغيرٍ في المكان يقرر ما إذا كان الإنسان سيبدع أم يرهق.
وهنا تبدأ هندسة الإنسان؛ العلم الذي يعيد التوازن بين الجسد والنظام.
الهندسة الصناعية في جوهرها لا تدرس الآلة وحدها، بل العلاقة بين الإنسان والآلة والمكان.
تتعامل مع الجسد كعنصرٍ هندسي له طاقة وقدرة وحدود،
فهي لا تبحث عن الراحة المطلقة، بل عن الكفاءة المستدامة: أن يعمل الإنسان في انسجامٍ مع التقنية، لا في صراعٍ معها.
ومن أوائل من أدركوا هذا المعنى في المملكة البروفيسور إبراهيم جمعة،
أحد خريجي جامعة ميامي، ومن أوائل من نادوا بإنشاء مراكز متخصصة في السلامة والصحة المهنية داخل الجامعات.
رأى أن السلامة لا تُدار في الميدان فقط، بل تُبنى في عقل المهندس منذ قاعة الدرس،
وأن الوقاية ليست نصيحة بعد الحادث، بل تصميم يسبق الخطأ.
استفاد من النماذج العالمية في هندسة العوامل البشرية وأعاد توطينها في بيئة العمل السعودية،
فكان من أوائل من وضعوا الأساس العلمي لإنشاء برامج السلامة المهنية،
وساهم في تأسيس الدورات المعتمدة مثل النيبوش والأوشا،
ليُخرّج جيلًا هندسيًا يرى أن الإنسان جزءٌ من المعادلة لا ملحقٌ بها.
ومن هذا الفكر امتدت جذور الجيل التالي،
جيلٌ حمل الفكرة إلى عمقٍ علميٍ أدق وأوسع.
منهم الدكتور خالد عبدالرشيد حافظ،
خريج جامعة ولاية ويتشيتا الأمريكية،
وأحد أبرز المتخصصين العرب في هندسة العوامل البشرية.
تتلمذ على يد المشرف الذي أشرف عليه مؤسس هذا العلم في كندا، فأصبح بحقٍّ حفيدًا علميًا لمؤسس مدرسة هندسة العوامل البشرية،
وامتدادًا حيًا لروحها التي جمعت بين دقة القياس وإنسانية الفهم.
طوّر أدوات التقييم لتناسب بيئات العمل المحلية،
وأعاد تعريف العلاقة بين الجهد والإنتاج لتصبح الكفاءة وليدة فهم الإنسان لا ضغطه.
وكان يقول في إحدى محاضراته:
“حين تُصمَّم بيئة العمل بذكاء، يصبح الجهد الطبيعي كافيًا للإنجاز العظيم.”
كلماته كانت تلخيصًا لمدرسةٍ كاملةٍ في التفكير الهندسي:
مدرسةٍ تبدأ بتحليل الجسد لا الآلة، وتبحث عن جودة الجهد قبل سرعة الإنتاج.
وفي الميدان الطبي برز الدكتور أحمد محمد باصقر، خريج جامعة إلينوي في شيكاغو،
الذي حمل تخصص هندسة الإنسان إلى غرفة العمليات،
حيث تختبر الحياة حدود الدقة، وتصبح كل حركةٍ قرارًا.
لاحظ أن الأدوات الجراحية صُمّمت لليد المتوسطة،
فأعاد تصميم مقابض الجراحة لتناسب اختلاف الأيدي،
خصوصًا الجراحات اللواتي يملكن أيديًا أدق وأصغر من أيدي الرجال؛ حوّل التمكين من فكرةٍ تنظيمية إلى ممارسةٍ هندسيةٍ ملموسة، فجعل بيئة الجراحة أكثر دقةً وإنصافًا وكفاءةً،
وجسّد أحد مبادئ رؤية 2030 في تمكين المرأة وتحسين بيئة العمل، من خلال تصميمٍ يُنصف الفروق البشرية ويحوّلها إلى عناصر قوةٍ لا قيود.
ولأن هذا التخصص يقوم على البحث العلمي الرصين أكثر من التنظير، فقد شكّلت جامعة ميامي مدرسةً رائدةً في هندسة الإنسان،
إذ جمعت بين الطب والهندسة والبيوميكانيكا في منظومةٍ واحدةٍ تُدرَّب فيها العقول على التحليل كما تُدرَّب الأجساد على الفهم.
في مختبراتها المتقدمة لتحليل الحركة والبيوميكانيكا،
تُستخدم الكاميرات ثلاثية الأبعاد وألواح القوة وأجهزة تحليل النشاط العضلي
لدراسة حركة الإنسان قبل العمليات الجراحية وبعدها،
ولرصد التغيرات الدقيقة في أداء العضلات والمفاصل أثناء العلاج والتأهيل.
تُجرى فيها تجارب متقدمة لمرضى الأطراف العلوية،
وللاعبين في رياضاتٍ عالية التأثير مثل البيسبول وكرة السلة وكرة القدم الأمريكية،
حيث تُصوَّر حركاتهم أثناء الأداء وتُحلَّل زوايا المفاصل ومسارات الحركة
لتحديد النقاط التي قد تُسبب إصاباتٍ مستقبلية،
ثم يُعاد تدريبهم على تقنياتٍ تقلل الخطر وتحسن الأداء.
وفي المعمل ذاته، يشارك خبراء من وكالة ناسا في إجراء تجارب على الحركة العضلية
في ظروفٍ تحاكي انعدام الجاذبية، لدراسة تأثيرها على الجسد البشري واستجابته العصبية.
هكذا تتحول الحركة البشرية إلى معادلة هندسية دقيقة،
يتحدث فيها الجسد بلغةٍ يفهمها المهندس، ويترجمها الطبيب، ويستفيد منها الرياضي ورائد الفضاء على السواء.
لكن هذا العلم لا يقف عند حدود الطب،
بل يمتد إلى الصناعة والطاقة والنقل.
فهو الذي يحدد ارتفاع المقعد في غرفة التحكم في أرامكو،
ويصمم واجهات القيادة في القطارات بما يتوافق مع زمن استجابة السائق،
ويوازن الإضاءة في غرف المراقبة لتقليل إجهاد العين.
إنها هندسة التفاصيل التي لا تُرى بالعين،
لكن أثرها يُقاس في راحة الجسد، وسرعة القرار، واستقرار الأداء.
ومع دخول الذكاء الاصطناعي، أصبحت الأنظمة أكثر قدرةً على فهم الإنسان.
فالمستشعرات تقيس الجهد العضلي لحظةً بلحظة،
وتتنبأ بالتعب قبل أن يشعر به العامل،
وتعيد توزيع المهام لتوازن الجهد وتمنع الإرهاق.
تحولت الآلة من أداةٍ صمّاء إلى شريكٍ ذكيٍّ يحمي الجسد قبل أن يطلب منه المزيد.
ولهذا، فإن تطوير معامل هندسة الإنسان والعوامل البشرية في أقسام الهندسة الصناعية لم يعد ترفًا أكاديميًا، بل ضرورةً وطنية تكمّل منظومة الرؤية.
فهذه المعامل هي المكان الذي يلتقي فيه الجسد بالآلة، والعلم بالتطبيق.
فيها تُقاس الحركة لتُفهم، ويُختبر الجهد ليُعاد توزيعه،
ويتعلم الطالب كيف يصمم نظامًا يحمي الإنسان قبل أن يطلب منه الأداء.
ومن هنا، تولد الثقافة الجديدة في التعليم الهندسي:
أن سلامة العامل ليست بندًا في لائحة، بل مبدأ في التصميم.
فكل بيئةٍ تُبنى على وعيٍ بالجسد تُثمر كفاءةً في الأداء قبل أن تُنقص الخطأ في السجلات.
ولهذا، حين تُقاس النتائج على أرض الواقع،
تظهر الأرقام لتؤكد ما تعلّمه المهندسون بالفطرة قبل النظرية؛ حيث تشير الدراسات إلى أن الإصابات العضلية الهيكلية تمثل ما يزيد على 30٪ من إصابات العمل عالميًا، وأن تطبيق مبادئ هندسة الإنسان يخفضها بما يقارب 40٪.
وهذه الأرقام ليست بياناتٍ جامدة، بل شواهد على علمٍ يجعل الراحة طريقًا إلى الكفاءة، ويُحوّل السلامة من التزامٍ إداري إلى وعيٍ وطني.
هندسة العوامل البشرية ليست علمًا للسلامة وحدها،
بل علمٌ لدراسة الجهد البشري وكيفية الحفاظ عليه دون إنهاك، وميزانٌ للعلاقة بين الكفاءة والرحمة، بين الأداء والاستدامة.
وحين يعمل النظام بانسجامٍ مع الإنسان،
تتولد الجودة كفطرةٍ لا كإجراء،
ويصبح الإتقان جزءًا من الوعي الوطني لا من لائحة التشغيل.
ومن هنا تمهد السلسلة طريقها إلى المقال القادم:
هندسة الإدارة: من القرار إلى الثقافة،
حيث ينتقل العقل الصناعي من ضبط العمليات إلى بناء القيادات،
ومن إدارة الآلة إلى قيادة الإنسان،
حين تصبح الإدارة علمًا يُمارس بالعقل، وتُقاس بالنتائج، وتُحيا بالقيم.






