ثمة كتبٌ تدخل إليها كقارئ، وتخرج منها مختلفًا. كتبٌ تشعر أنها كُتبت من مادة الحياة نفسها، لا من جفاف الحروف. وهذا الكتاب واحدٌ من تلك الأعمال التي لا تُقرأ بقدر ما تُعاش؛ لأن خلف كل صفحة منه يقف رجلٌ لا يتكرر: الأستاذ عوض بن عواض معيض الزائدي، رجلٌ صاغته القيم قبل التجارب، وربّته المشقة قبل الكتب، وأقامته الأخلاق قبل المناصب. ويأتي هذا الكتاب في لحظة يتجدد فيها الوعي بأهمية الروايات التربوية المحلية وقدرتها على إضاءة الطريق نحو تعليم أكثر عمقًا وواقعية.
يبدأ المؤلف رحلته من بيت شعرٍ بسيط، لكنه يبدأها كذلك من صفاءٍ أخلاقي لا يقل اتساعًا عن الصحراء التي كانت تحيط به. هناك، على رائحة السِّقاء وحرارة الرمال وصوت الريح، وُلدت بذرة رجلٍ تكبر داخله النخوة كما تكبر الشجرة في أرض غير مهيّأة، لكنها تُصرّ أن تنبت. لم تكن طفولته ناعمة، بل كانت خشنة كأطراف الخيمة، ودافئة كقلب أهلها، وممتلئة بالدروس التي لا يتعلّمها الإنسان من الكتب، بل من الحياة نفسها.
من هناك خرج الطفل الذي سيصبح فيما بعد معلمًا وقائدًا ومؤسسًا. خرج محمّلًا بفقرٍ لم يُذلّه، وبنشأةٍ لم تُقعده، وبطموحٍ لم يعرف القيد. عرف الحرمان، لكنه لم يسمح له أن يمس نُبل قلبه. عرف الحاجة، لكنها لم تنل من كبريائه. عرف قسوة البدايات، لكنه لم يمنحها حق تشكيل نهاياته. هذا الإصرار الهادئ هو أول ما يلمحه القارئ حين يبحر في سيرته: إرادة لا تُكسر، وقيم لا تُساوَم، وشخصية تعرف طريقها قبل أن يُرشدها أحد.
وحين دخل المؤلف عالم التعليم، لم يأتِ إليه من مدخل السلطة، ولا من بوابة الإدارة؛ بل من المكان الذي يُختبر فيه صدق التربية: الصفوف الأولية. هناك، على مقاعد الصغار، وفي وجوههم المندهشة، اكتشف رسالته الأولى. لم يكن المعلم الذي يشرح، بل المعلم الذي يفهم. لم يكن الذي يُملي، بل الذي يُنصت. كان يدخل الصف كما يدخل الإنسان إلى مكانٍ يقدّسه؛ يقف أمام الأطفال كما يقف الإنسان أمام مستقبل وطنٍ يُصنع في تلك اللحظات الصغيرة.
شيئًا فشيئًا، أصبح أثره في الصف حديثًا للمعلمين. صار مرجعًا لهم، ثم مدربًا، ثم صاحب تجربة تُروى لا لأنها مبهرة، بل لأنها صادقة. لقد أدرك أنّ بناء الطفل عملٌ أشرف من أن يُختزل في منهج، وأعظم من أن يُختصر في حصة. الطفل عنده مشروع أمة، والمعلم عنده حجر الأساس. وهذا الوعي العميق هو الذي سيحمل تجربته لاحقًا من الصف إلى المدرسة، ومن المدرسة إلى منظومة تمتد في الزمن.
لم تكن فكرة تأسيس مدرسة بالنسبة إليه قرارًا إداريًا، بل كانت امتدادًا طبيعيًا لمسار بدأ منذ دخل أول فصل دراسي. كان يرى المدرسة بوصفها كائنًا حيًا يتنفس بقيم مؤسسها، وينهض بروحه قبل برامجه. ولذلك حين أنشأ أول مدرسة، لم يكن هدفه مبنى، بل معنى. لم يكن يريد مؤسسة، بل أثرًا. لم يكن يسعى إلى حضورٍ تجاري، بل إلى حضورٍ تربوي يليق بما تربى عليه من صدق وبرّ وإخلاص.
ومع الزمن، أخذت تلك المدرسة تكبر، كما يكبر شيءٌ صادق حملتْه يدٌ أمينة. صارت تجربة لها لونها الخاص، وممارساتها المتفردة، وسمعتها التي تُبنى لا على الدعاية، بل على أثرها في الطلاب والمعلمين والمجتمع. ثم امتدت، وتفرعت، وأصبحت مجموعة مدارس تحمل من صاحبها أكثر مما تحمله من هويتها البصرية. كل نجاح فيها جزء من حياته. كل قيمة فيها قطعة من قلبه. كل إنجاز فيها ظلٌّ من روحه التي لم تخفت رغم اتساع المسؤولية.
القارئ يجد في الكتاب شخصية تُشبه الضوء: لا ترفع صوتها، لكنها تظهر بقوة لا تخطئها العين. رجلٌ إذا تحدث عن التعليم شعرت أنه يتحدث عن عمره، لا عن مهنته. وإذا تحدث عن القيم شعرت أنه يتحدث عن جوهره، لا عن وصاياه. شخصية تشبه الجبال في ثباتها، وتشبه القطرات الأولى من المطر في نقائها، وتشبه المعلم الحقيقي في صدقه الذي لا يتلوّن.
إن قيمة هذا العمل لا تكمن في سرد المراحل، بل في إظهار الإنسان الذي عبرها. رجلٌ كان معلّمًا قبل أن يكون مؤسسًا، وكان قائدًا قبل أن يُمنح صفة القيادة، وكان قدوة قبل أن تتسع شهرته. رجلٌ لم تغيّره السلطة، ولم تُغره الإمكانات، ولم يصرفه النجاح عن أصله. بقي وفيًا للقيم التي خرج بها من بيت الشعر: الوفاء، البر، الجد، النزاهة، الإخلاص. بقي هو نفسه، لكن تجربته اتسعت حتى صارت إرثًا تربويًا.
وهنا تكمن جاذبية الكتاب: أنّه يكشف كيف تُبنى التجارب الكبيرة من مكوّنات بسيطة. كيف يبدأ المرء من الصفر، لكنه لا يظل صفرًا. كيف يتحول العمل من وظيفة إلى رسالة، ثم إلى فلسفة، ثم إلى مدرسة، ثم إلى منظومة، ثم إلى أثر لا يحتاج إلى توقيع كي يُعرف صاحبه.
إن رحلتي من بيت الشعر إلى تأسيس مدارسي الخاصة ليس كتاب سيرة، بل كتاب رؤية. ليس تسجيلًا لذكريات، بل تسجيلٌ لمعنى الإنسان حين يلتزم بالقيم، فيرتفع فوق الظروف. كتابٌ يُعيد إلى التعليم روحه الأولى: أنه رسالة أخلاقية قبل أن يكون تخصصًا، وأن المدرسة مشروع حياة قبل أن تكون مؤسسة، وأن التربية فعل صدق قبل أن تكون سلسلة أنظمة.
وأجمل ما في هذا الكتاب أنه يجعل القارئ يتأمل: كيف لرجلٍ بدأ من بيت شعر أن يبني مدرسة؟ كيف لمن نشأ على شظف العيش أن يصنع منظومة تعليمية؟ كيف لمعاناة الطفولة أن تتحول إلى مدرسة في القيادة؟ كيف لرجلٍ واحد أن يُثبت أنّ أثر القيم أقوى من أثر الإمكانات؟
هذا كتابٌ يستحق أن يُقرأ بتركيز، ويُعاد بتمعّن، لأنّ خلفه رجلًا لا يصنع الكلام بل يصنع المثال. رجلًا يُشبه الجذور في عمقها، والقمم في وضوحها، والنبع في صفائه. وتجربة كتجربته… لا تُقرأ لتُعجب، بل لتُلهم.
وكتابٌ كهذا لا يُنهي القراءة، بل يفتح بابًا آخر للتأمل في معنى أن يظل الإنسان وفيًا لبداياته مهما اتسعت خطاه.






