تتجاوز السيرة الذاتية حدود السرد الزمني لتغدو فنًّا تأويليًا يعيد فيه الكاتب تشكيل حياته بوعي لاحق، حيث يلتقي الخاص بالعام، ويتحوّل الماضي إلى نصّ قابل للتأويل لا مرآة صافية للواقع. فالسيرة ليست محض تذكّر، بل بناء لغوي ينتقي ويُبرز ويُخفي، يتقاطع فيه الوعي الفردي مع شروط البيئة والزمن. وقد عبّر ابن خلدون عن هذا حين قال إن الإنسان «ابنُ عوائده وبيئته»، في إشارة إلى أنّ الذات تُكتب كما تُصنع.
وفي ضوء هذا الفهم، تطوّرت السيرة في التراث العربي عبر أربعة أنماط كبرى تكشف طرائق مختلفة لظهور الذات.
أول هذه الأنماط السيرة المكانية، حيث يتقدّم المكان بوصفه مرآة للوعي ومساحة للتشكّل. وقد بلغ هذا النمط ذروته لدى ابن بطوطة الذي جعل من المدن والطرق والبحار سجلًّا لظهور ذاته الرحّالة، فامتزج وصفه للأمصار بما يتكشف له من معنى في اللقاء مع الآخر.
أما السيرة الزمانية، فهي التي تُبنى على تحوّلات الفكر ومسار التحوّل الداخلي، كما في المنقذ من الضلال لـ أبي حامد الغزالي، الذي أعاد قراءة حياته في ضوء أزمته الفكرية الكبرى بين الشكّ واليقين، فصاغ سيرة عقل يبحث عن الحقيقة عبر معاناة وقلق وتأمّل.
وتبرز السيرة الشخوصية حين تتجلّى الذات عبر شبكة من العلاقات الإنسانية والعلمية، فيظهر الكاتب في سياق الوجوه التي تحيطه. وقد أبدع ابن خلكان في هذا النمط في وفيات الأعيان، حيث قدّم عصره من خلال تراجم العلماء والقضاة والشعراء، فتكشّفت ذاته العالمة من خلال الاختيار والانتقاء وطريقة الحكم على الرجال.
أما السيرة الموضوعاتية، فهي التي تتخفّى فيها الذات خلف مشروع فكري أو قضية كبرى، فيظهر صاحبها من خلال رؤيته للعمران والتاريخ. ويمثّل ابن خلدون قمّة هذا النمط في المقدمة، إذ صاغ سيرة عقل مؤسِّس، لا من خلال سرد حياته، بل عبر بناء فلسفة في الاجتماع البشري وقوانين التاريخ.
وإلى جانب هذه الأنماط الأربعة، برزت السير التاريخية وكتب الطبقات بوصفها دعامة مركزية لفنّ السيرة. ويأتي ابن سعد في الطبقات الكبرى في مقدمة هذه النماذج، إذ رتّب سير الصحابة والتابعين وفق طبقات زمنية ومراتب علمية، مقدّمًا نموذجًا دقيقًا في توثيق السيرة وجمع أخبار الرجال. وتتجاور هذه الأعمال مع نماذج ابن بطوطة والغزالي وابن خلكان وابن خلدون لتشكّل طيفًا واسعًا من طرق تمثّل الذات؛ فمن الذات الرحّالة، إلى الذات المفكرة، إلى ذات المؤرّخ، إلى ذات الفيلسوف.
غير أنّ السيرة قد تنزلق — قديمًا وحديثًا — إلى التمجيد الذاتي والتزيين، فيغيب البعد التأملي لصالح صورة لامعة لا تعكس هشاشة التجربة ولا عمقها. وقد نبّه الجاحظ إلى هذا الميل بقوله إن الكاتب إذا مدح نفسه «فقد ذمّها»، في إشارة إلى أن السيرة تفقد صدقها حين تتحوّل إلى تمثال للذات بدل أن تكشف تناقضاتها.
وهكذا يبقى فنّ السيرة بين البوح والتخفّي فنًّا يقوم على مفارقة جوهرية: فالذات لا تُرى إلا حين تكشف نفسها، ولا تُفهم إلا حين تتخفّى خلف ما تقوله وتتركه مسكوتًا عنه. والسيرة التي تعترف بظلّ صاحبها هي وحدها القادرة على أن تضيء وجهه، وتقدّم للقارئ إنسانًا حيًا يتحرك بين الشكّ واليقين، وبين الحضور والغياب، وبين البوح والحجب.


