
في الإحاطة الصحفية الحكومية الأخيرة، لم يتقدم الانفعال إلى المنصة، بل تقدّم القياس. لم تُرفع نبرة الخطاب، ولم تُستدعَ لغة المبالغة، بل اصطفّت الأرقام بوصفها لغة دولة تعرف ماذا تقول ومتى تقول. هذا هو الفارق الجوهري بين خطاب يُدافع عن نفسه، وخطابٍ يترك الوقائع تتكفّل بالدفاع.
خطاب وزير الإعلام سلمان بن يوسف الدوسري لم يُبنَ على استدعاء الذاكرة العاطفية، بل على إظهار التحول بوصفه نتيجة. حين تُذكر مساهمة الأنشطة غير النفطية بنسبة 55.4%، لا يُقصد الرقم لذاته، بل ما وراءه: انتقال الاقتصاد من مركزية المورد الواحد إلى تعددية المصادر، ومن هشاشة التأثر إلى صلابة التنويع. المقارنة مع عام 2016 ليست ترفًا بل برهانًا زمنيًا يضع المتلقي أمام مسار لا أمام لحظة.
وفي ملف الإسكان، بدا الرقم 65.4% لتملك الأسر السعودية للمنازل كإشارة إلى أن التنمية لم تبقَ في أعلى الهرم، بل تسللت إلى قاع الحياة اليومية. فامتلاك المسكن ليس تفصيلاً عقاريًا، بل مؤشر استقرار اجتماعي، ومفتاح طمأنينة، وقاعدة إنتاج. هنا تتجلى فلسفة الدولة حين تُقاس الإنجازات بما يلامس حياة الناس، لا بما يملأ التقارير.
أما الذكاء الاصطناعي، فحضر بوصفه استثمارًا في الإنسان قبل التقنية. 26 جائزة عالمية للشباب ليست مسابقة فحسب، بل إعلان عن توجه استراتيجي يرى في العقول رأس المال الحقيقي. وعندما تُضاف إليها نسب النمو في الألعاب الإلكترونية والأمن السيبراني، يتضح أن الحديث ليس عن قطاعات طارئة، بل عن اقتصاد معرفة يتشكّل بهدوء.
وفي مشهد البنية التحتية، جاء قطار الرياض مثالًا دالًا: انضباط تشغيل بنسبة 99.8%، و120 مليون راكب. ليست هذه أرقام نقل فقط، بل رسالة كفاءة. فالدولة التي تُتقن التشغيل تُتقن الإدارة، والدولة التي تضبط التفاصيل الصغيرة تُحسن إدارة الملفات الكبرى.
اللافت في الخطاب أيضًا انتقال الإعلام من موقع التغطية إلى موقع الصناعة. مشروع “مدرسة الموهوبين الإعلاميين” يشي بفهم عميق لوظيفة الإعلام بوصفه مهنة تُدرَّس وتُبنى، لا مجرد مساحة ردود أفعال. هنا، لا يُترك المستقبل للصدفة، بل يُصمَّم من المراحل المبكرة.
أما القدية، فظهرت لا كمدينة ترفيه، بل كمنصة تأثير. أرقام الوصول العالمي ليست استعراضًا، بل قراءة لنجاح العلامة السعودية في اختراق الوعي الدولي. استضافة “إمباك” وإطلاق “بيت إمباك” يؤكدان أن التأثير لم يعد حدثًا عابرًا، بل صناعة متكاملة.
في المجمل، هذا خطاب لا يُجادل ولا يُزايد. خطاب يُمسك بالخيط الهادئ بين الداخل والخارج، بين المواطن والمستثمر، بين اليوم والغد. إعلام لا يرفع صوته، لأنه مطمئن إلى ما يقدّم. وهنا تكمن قوته: دولة تتحدث بثقة من يعرف أن الأرقام حين تُحسن ترتيبها، تُغني عن كل ضجيج.






