المقالات

الثراث الثقافي، والذاكرة الجمعية

تُعد المكتبة العربية ثرية جدًا بمكتنزات لا حصر لها من ثقافات متنوعة وعلوم متعددة تغص بفرائد الفنون وبدائع الكتب والمكتوب، وروائع الأدبيات (شعرًا ونثرًا)، وكذا أصول الدين وفروعه، وهي في الواقع تحمل زخمًا لا يمكن التفريط فيه بحال من الأحوال بكونه يمثل الهوية الدينية والعربية بل ويرسخ الانتماء للوطن والفخر بمنجزات الأوائل، والاقتداء بطموحهم المتفرد بالرغم من الظروف القاسية، وشح الموارد وضعف الإمكانات وبدائية وسائل التلقي، وبُعد مكان مدارسة العلم، إلا أنهم كانوا يمتلكون عزائم فذة، وقرائح متقدة وذكاءات متعددة وذاكرة حافظة لا يسقط ما وقع فيها ولا ينسى، ربما لصفاء الذهن وشغف الطلب والتفرغ لنيل العلم وقوة التحمل وجلد الصبر وارتفاع سقف التطلعات للجمع والإلمام؛ إتمامًا وإحكامُا، ومن ثم البذل والعطاء الذي يتمخض عنه النفع وتوريث العلم؛ انطلاقًا من شعور عارم بالمسؤولية واحتساب في نقل المعرفة ونشر الثقافة، وتبصرة العامة كذاكرة جمعية تتناقل تلك الكنوز جيلًا بعد جيل؛ كي يبقى ذلك الموروث حقًا محفوظًا بتلك الذاكرة الحديدية التي هي عنوان العربي القح الأصيل الذي اقتبس تلك الطبعة من بيئاته التي علمته سعة الأفق والتطلع لما هو بعيد وعميق أو شاهق صعب المنال؛ لتكون الثمرة تبعًا لطيب المنبت، وحسن التغذية وحذق الرعاية!!!

نعم، يحفل تاريخنا بأنماط متعددة من أصناف العلوم والأدب والفنون بحبك رصين ولغة جزلة محكمة بمعايرة لُغوية ذات وزن وتأصيل علمي مكين ببلاغة معجزة ومعانٍ سامية وأساليب متمايزة ممتنعة؛ لتكون مثالًا يحتذى ودروسًا تلقى، وتتلقى كقواعد راسخة ومدلولات ثابتة كونها تستند لأصل المعدن ومصدر سبك العملة الذي تنزل القرآن العظيم بلغتهم، فهم – أعني العرب- هم أهل اللغة ومؤصلوها وهم مصدر الثراء اللغوي ومهندسو الكلمة المعبرة والجملة المبهرة والبلاغة الساحرة، والتراكيب اللغوية المتألقة كبريق الماس؛ غالي الثمن عالي الجودة!!!

نحن – في واقعنا الحالي- نكاد نفقد أو نفرغ الأجيال من تلك الموروثات الثقافية والمكتنزات العلمية التي هي ثروات عالية الجودة ناضجة الفكر مركزة في علمها وفنها، عميقة المعنى، ثرية المعرفة متخصصة أو مشتركة أو عامة ذات أصول أو متون أو فروع؛ وهي في الحقيقة ذات دلالات عظيمة ورؤية جمالية وغزارة لُغوية مع براعة فائقة في تكوين قوالب بلاغية ذات سبك نثري أو شعري رائع!
لقد تمخضت تلك المشتركات عن نهل مستفيض ولّدت تجارب صاغتها الأحداث أو إرصادات للوقائع، أو بحوث أوجدتها المجامع أو استقصاءات قادها الشغف لا الفضول، أو رحلات – كبعثات علمية- بجهود فردية وتمويل ذاتي تؤزه – رغم تكبد المخاطر – تلك القوة الذاتية لتطوير الذات، لتصنع من أولئك الأفذاذ علماء أكابر، حفرت جهودهم في ذاكرة التاريخ بمعول صلب كنقش على صخر لا يمحى مع مر العصور!!!
إننا في وقت أصبحنا أبعد ما نكون عن تلك التعبويات الموروثة لنكتفي برؤوس الأقلام عن تلك المؤلفات، وبالمختصر عن المكتمل الجامع! لتطغى الوجبات المعرفية السريعة- اللاذعة أحيانًا أو المختلة أو المشوهة- عن المؤصلة التي تمثل العمق والمصدر الصحيح، لتكون الحصيلة على قدر المحصود من مزرعة العلم، فإما أن تكون جنّة ذات بساتين وأنهار تؤتي أكلها وإلا فهي ذات قفر وفقر وعوز تستجدي النجدة؛ لأن تحظى بروح الحياة لا الحياة المعرفية الثرية!!
هنا يجب التركيز على مصادر الرواء المعرفي؛ معاقل العلم من مدارس وجامعات وغيرها لتنهج نهجًا مغايرًا ينتفي معه التسطيح الذي يتولد عنه مفاهيم خاطئة أنتجت مسارات خاطفة أو ومضات عابرة أنتجت فيما يعرف بالملخصات المبسطة أو المعلومة المصغرة التي يفرزها (العم غوغل) ليقدم الإجابة على طبق من ذهب دونما عناء بحث أو حتى فهم أو بناء فكر أو تأصيل معلومة أو توثيق، لتكون غير ذات قيمة، وبالتالي لا تجد لها مكانًا آمنًا في الذاكرة لتذهب سريعًا كما أتت كذلك!!
إن من إفرازات تلك الومضات السريعة انخفاض التحصيل العلمي، وإن كان التركيز حاليًا على التخصص الموجه أو التقنيات المعاصرة، إلا أن هنالك أساسيات يجب أن تبقى بنائية لا غنى عنها؛ أقصد المهارات الذاتية؛ القرائية التحليلية والناقدة، والكتابية الموجهة، ومن ثم العُمق المعرفي الديني والاستقصائي البحثي الذي مرجعه المكتبة بإرصاداتها وفنونها المختلفة كي نوجد مجتمعًا بحثيٍ لا متلقف مقلٍ يأخذ المعلومة دونما مصدر موثوق!!

التسطيح يوجد تجويف خطير يلتهم كل جميل.. لن تبنى الحضارات على كثيب منهار!! القراءات المتعمقة التي نزرعها أو نستزرعها توسع المدارك، توقض الوعي، تنمي الحس التنبؤي، والفكر التأملي، والتعايش السلمي، ترتقي بالذائقة الأدبية، تزيد الإنسان بهاءً، تعمق الانتماء للذات، للوطن، للمجتمع، تكوّن حصانة ضد التيارات المزعزعة والموجات الهابطة، تكوّن الصور الكاملة للإنسان والحياة!

وهنا أؤكد – في خاتمة المطاف – على أن مسؤولية زرع ذلك السلوك العلمي منذ الصغر كأمانة علمية ومهمة عملية يقع على وزارة التعليم والجهات المشترِكة في الثقافة والعلوم على أن تكون المكتبة جزءًا من منظومة العملية التعليمية، وأن تثرى المناهج بما يُعيد المجتمع لمنهل المعرفة الثر، وموروث القيم النبيلة وتاريخه المجيد؛ في مجالي البحث والكتابة والعودة للجذور المعرفية؛ رصانةً وتأصيلًا، لتكوين قاعدة أدبية تمنح الفرد زخمًا ورصيدًا كبيرًا تخلق له مجالاً رحبًا ينطلق منه لميادين الحياة؛ حراكًا وعطاءً يثري المجتمع بالجديد المفيد!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى