
لقد أنعم الله – تعالى- على عباده بالكثير من النعم، وهذه النعم لا نستطيع عدّها، فهي كثيرة لا تستقصى، ومتتابعة لا تنقضي، قال – تعالى- في محكم تنزيله: (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [إبراهيم: 34]، أي: لو حاولتم عدّ هذه النعم لما استطعتم ولعجزتم عن عدّها؛ وذلك لكثرتها وخفاء الكثير منها عليكم.
والمؤمن دائمًا على خير ما دام قلبه متصلًا بالله -عز وجل- راضيًا بقضائه مستسلمًا لأمره، في الكثير شاكر وفي القليل قانع، ومن سنن الله في خلقه أن الحياة لا تدوم على وتيرة واحدة؛ وإنما يتقلب العبد فيها في أقدار الله -عز وجل- ما بين الصحة والمرض، والغنى والفقر، والفرح والحزن، وما بين العطاء والمنع، وفي كل ذلك الخير للعبد المؤمن، فعَنْ أبي يَحْيَى صُهَيْبِ بْنِ سِنَانٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: عَجَبًا لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْرًا لَهُ. رواه مسلم.
والله – تعالى – قد منّ على عباده من نعمه العظيمة التي يعجزون عن عدّها، ورزق من يشاء بغير حساب، والنبي – صلى الله عليه وسلم- يقول: “يَدُ اللَّهِ مَلْأَى لاَ يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَار”، والسحاء: الدائمة الصب، فهذا الحديث يشير إلى سعة العطاء من الله –تعالى- على عباده.
قال -عز وجل-: (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) [لقمان: 20]، أي أتم الله عليكم نعمه، وأكرمكم بالتمتع والتلذذ، وهذه الآية الكريمة تُشير إلى أن نعم الله -تعالى- منها ما هو ظاهر، ومنها ما هو باطن، فالنعم الظاهرة: هي النعم المشاهدة والمحسوسة، كنعمة السمع والبصر والكلام والصحة والعافية، وكنعمة الزوجة والأولاد والأموال، وغير ذلك من النعم، أما النعم الباطنة: فهي النعم الخفية التي يجد الإنسان أثرها وما يترتب عليها بدون مشاهدتها، وذلك كأعظم نعمة يُنعم الله بها على العبد وهي نعمة الإيمان بالله – تعالى- وبرسوله – صلى الله عليه وسلم-، وكنعمة الهداية إلى مكارم الأخلاق والبعد عن الرذائل، والله -سبحانه وتعالى- يقول: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) [الحجرات: 7]، يقول ابن عيينة – رحمه الله تعالى-: (ما أنعم الله على العباد نعمة أفضل من أن عرفهم لا إله إلا الله).
وهذه النعم ظاهرها وباطنها تستوجب على العبد أن يشكر الله عليها في حين أنه صرف الكثير من الناس عنها، أن يشكره بقلبه وأن يشكره بلسانه، وأن يشكره بجميع جوارحه، فشكر الله بالقلب أن يستحضر العبد النعمة بقلبه معظمًا المنعم عليه بها، وبذلك يكون القلب شاكرًا لله – تعالى-، أما شكر العبد باللسان: فهو إظهار الرضى عن الله – عز وجل- بالثناء عليه، والإكثار من ذكره تعظيمًا له وحبًا فيه، والله – تعالى- يقول: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى: 11]، أي تحدّث بهذه النعم اعترافًا منك أن المنعم هو الله- سبحانه-، وأن المستحق للشكر حقيقةً هو الله – تعالى-؛ لأن الإنسان فقير؛ لولا إحسان الله وإنعام الله عليه وإمداده بالنعم، ولا يكون التحدث بالنعمة على سبيل الفخر والرياء فإن ذلك أمر يبغضه الله – تعالى-، قال الإمام ابن كثير: وقوله: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) أي: وكما كنت عائلًا فقيرًا فأغناك الله، فحدث بنعمة الله عليك، كما جاء في الدعاء: “واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها، قابليها، وأتمها علينا”، وعن أبي نضرة قال: كان المسلمون يرون أن من شكر النعم أن يحدّث بها، وقد روي عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (التحدث بنعم الله شكر)، ومن ذكر النعمة وشكرها ألا يبخل على نفسه وأهله بما أنعم الله به عليه، ففي سنن أبي داود أَنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: “كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ”.
وأما شكر الجوارح، فهو استعمال نعم الله في طاعته، وعدم الاستعانة بها على معصيته، فمن شكر العينين أن يغضهما عن الحرام، وأن يستر كل عيب رآه بهما لمسلم، ومن شكر الأذنين أن يستر كل عيب سمعه، ومن شكر القدمين أن يمشي بهما إلى الطاعة لا إلى المعصية، فهذا يدخل في جملة شكر هذه الأعضاء.
ومن النظرات القاصرة أن ينظر العبد إلى النعم أنها مقتصرة على المال فقط، وهذه النظرة وللأسف الشديد نظرة خاطئة؛ لأن العبد لا يخلو حال من أحواله إلا وهو مدود بنعم الله، فالصحة والعافية نعمة، والزوجة الصالحة نعمة، والولد الصالح نعمة، والصديق الصالح نعمة، وتوفيق الله للعبد للرضا بقضاء الله ولذكره وشكره على النعم لهو من أعظم النعم، والأعمال الصالحة من تلاوة وذكر وصيام وقيام وتبتل وتهجد نعمة.
والنبي – صلى الله عليه وسلم- يرشدنا إلى هذا المنهج التربوي الذي إن سلكه العبد يربي فيه القناعة والرضا شيئًا فشيئًا، وهو: أن ينظر العبد إلى من هو أدنى منه حالًا ومالًا حتى لا يستصغر نعم الله عليه، وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسولُ اللَّه ﷺ: (انْظُرُوا إِلَى مَنْ هو أَسفَل مِنْكُمْ وَلا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوقَكُم؛ فهُوَ أَجْدَرُ أَن لا تَزْدَرُوا نعمةَ اللَّه عَلَيْكُمْ ).. متفقٌ عَلَيْهِ.
ولا سبيل قط إلى حراسة النعم وحمايتها وزيادتها إلا بالشكر، فنعمُ الله – تعالى- إن لم يصحبها شكر انقلبت بلاءً ونقمة على صاحبها، والله – عز وجل- يقول:(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7]، والمراد بالكفر في قوله: (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ) كفر النعمة وجحودها، وعدم نسبتها إلى واهبها الحقيقي وهو الله- تعالى-.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
* كاتب- عضو مجلس إدارة شركة مطوفي حجاج الدول الأفريقية غير العربية







مقال جميل ياحبيبنا ابا الوليد جزاك الله خير وكتب اجرك ونفع بكم
ماشاء الله تذكره مهمه للقلوب التي تغفل عن تعدد النعم حتي انها لانحصي عددها بارك الله في كاتب المقاله ولمن نشرها