المقالات

أم الدكتورة

لقب “أم الدكتورة” له حكاية مع والدتي الغالية خديجة عمر سلطان، والتي وافتها المنية يوم الإثنين الموافق ٨ رجب ١٤٤٤، نسأل الله أن يتغمدها بواسع رحمته. في أول وهلة سيظن القارئ أن لقب (أم الدكتورة) مغزاه جميل، وأنه حقيقي لأنها فعلًا أم الدكتورة ولكن الحقيقة أن بداية هذا اللقب منذ عدد من السنين؛ حيث كان يُقال لها تهكمًا وضحكًا عليها من بعض البشر المشككين بحلمها حيال طفلتها الصغيرة التي لم تتجاوز سن التاسعة وفي المرحلة الابتدائية، وأمها التي لم يحالفها الحظ من التعليم. سأحكي عن هذا الجانب والحدث الذي عشته وتعايشته معها. لم أدركه حينما كنت طفلة وها أنا ذا أشهد لها فيه بالصمود والثقة في الله أولًا وقبل كل شيء.

كانت أمي الحبيبة تضطر بعض الأحيان أن تأخذني للمدرسة، وكنا وقتها نعيش في داخل الحارة ويلزمنا المشي إلى الشارع الرئيسي تحت وطأة الشمس والحرارة؛ لأخذ سيارة أجرة لتقلني للمدرسة، فكان من في الحارة من الجيران يشيرون لها بأن ما حملها على هذا التعب والشقاء في الذهاب والإياب وصرف المال على سيارات الأجرة، والبعض يقول لها كان غيبتيها من المدرسة حتى إن البعض ينصحها بأن لا معنى للمدرسة للبنات؛ فكان ردها لهم بكل رضا ما فيه تعب وإنشاء الله تكبر وتصير دكتورة؛ فكان البعض يضحك عاليًا مستهزئًا عليها بمقولة: (زودتيها يا خالة خديجة) أو يكون في مكنون قلبهم وحركات عيونهم (ليس لهذه الدرجة!!)، والبعض يرد على مضدد (طيب يا أم الدكتورة)، وكان البعض منهم (يؤمن) على أمنيتها، ولكن ليس باليقين الذي كانت هي مؤمنة به.

المواقف مع أمي للتعليم لا تحصى، وأتذكر منها حينما كنت أبكي أحيانًا لعدم معرفتي لحل بعض مسائل في مادة الرياضيات؛ فكانت تربت علي وتهدئني وتأخذ عباءتها، وتأخذني وكتابي وتدق على أبواب الجيران تطلب منهم أن ينظروا في المسائل لمساعدتي لحلها. لم تخجل يومًا لطلب المساعدة لي أو تتأفف من توفير ما يمكن توفيره لتعليمي. كانت محبة للتعليم ومؤمنة بأنه هو منارة للعقل والقلب.

حينما رزقني الله بأول مولودة كنت حينها في بداية صفوف الدراسة الجامعية، ودراسة بكالوريوس علوم التمريض يحتاج تركيزًا لوجود مواد متعددة ومتنوعة؛ فكانت أمي اليد التي أعانتني على استكمال الدراسة الجامعية والتحفيز للصبر لعدم ترك الدراسة، وكانت ترعى ابنتي أول فرحتي بكل حب، فكان ذلك كالبلسم لي والدافع للعلم والتعلم.

أتذكر اليوم هذه الذكريات التي أسترجع فيها مدى حرصها كأم لتمكيني بالتعليم على رغم أنها لم تحصل عليه. كانت تستخدم أسلوب التحفيز ولم تعرف معناه، ولم تحضر دورات وورش كيفية تنمية الذات للأبناء، ولكنها تطبقه بفطرة الأم الجميلة والسلسة. بدون شك لم يكن الأمر سهلًا في زمنها ولكنها قوة الإرادة والصبر والتضحيات من أجل الأبناء تهمش الذات. بالنسبة لها أبنائي وبناتي ولا شيء آخر يكمل سعادتها.

في طفولتي شعرت بمدى صمودها وتضحياتها، وحينما كبرت أيقنت وعرفت أن كل ما أنا فيه وعليه بعد فضل من الله هو من خطواتها ودعواتها وأمنياتها.

مهما كتبت عن والدتي فمن الطبيعي ومن المستحيل أن أوافيها حقها لما بذلته من جهود؛ لأكون ما أنا عليه الآن، أسأل الله أن يغفر لها ويرحمها ويدخلها فسيح جناته مع الشهداء، ويكرم مثواها كما أكرمتنا اللهم آمين..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى