المقالات

الإسلام .. والنفس الأمّارة بالسوء

قال الإمام ابن القيّم – رحمه الله-: “القلب كلما اشتدت به الغفلة؛ اشتدت به القسوة، فإذا ذكر الله ذابت تلك القسوة، كما يذوب الرصاص بالنار”.. عبارة بليغة تشي بضرورة أن يكون العبد دائمًا مع الله، لا سيما في ظروف حياتنا الراهنة التي فاضت بالسوء ونكران الجميل من أناس امتلأت نفوسهم بالحقد والغل والحسد، وقانا الله جميعًا منهم.
وما سبق يجعلنا نتدبر كثيرًا في “النفس البشرية”، وأحوالها وتقلباتها، فقد خلق الله – تبارك وتعالى- النفس الإنسانية سويةً ملهمة على الفطرة، ثم تطرأ عليها وساوس الشيطان؛ فتتحوَّل من السواء الذي خلقت عليه وتأمر صاحبها بالسوء.
وقد أطلق العلماء على النفس التي تتغلب عليها هذه الحالة اسم “النفس الأمَّارة بالسوء” آخذين هذا المسمَّى من القرآن الكريم، وذكروا لها تعريفات تدور كلها حول معاني واحدة، ومن هذه التعريفات أنها النفس التي تميل إلى الطبيعة البدنية، وتأمر باللذات والشهوات الحسية، فهي مأوى الشرور، ومنبع الأخلاق الذميمة، وهي التي لا تأمر صاحبها بخير، بل تأمره بما تهواه من الشهوات المحرَّمة واتِّباع الباطل‏، والأمر من النفس نوعان:
– النوع الأول: الأمر بالخير إذا بقيت على أصل الفطرة.
– النوع الثاني: الأمر بالسوء إذا انحرفت عن سواء الفطرة، ويظهر ذلك في قوله – تعالى- عن أول قتل وقع في الأرض: ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (المائدة: 30)، وكذلك قوله – تعالى-: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ (يوسف: 53).
وهنا يقول الإمام الشوكاني: “إن هذا الجنس من الأنفس البشرية شأنه الأمر بالسوء لميله إلى الشهوات، وتأثيرها بالطبع، وصعوبة قهرها، وكفِّها عن ذلك إلا ما رحم ربِي؛ أي: إلا من رحم من النفوس فعصمها عن أن تكون أمَّارة بالسوء، أو إلا وقت رحمة ربِي وعصمته لها”.
إذًا، فالنفس الإمارة بالسوء هي التي تُلقي بصاحبها إلى اتِّباع الهوى والشهوات وفعل المنكرات، ولا ينجو من الوقوع في حبائلها إلا من عاد إلى رشده واستمع إلى ضميره، وهي أيضًا النفس التي تجب مجاهدتها.
يقول الله – تعالى- على لسان نبيه يعقوب (عليه السلام) لما أخبره بنوه أن الذئب أكل يوسف: ﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ (يوسف: 83)، فهذه الآيات نسبت الأفعال السيئة للنفس، فهي الأمَّارة، والمسوِّلة، والمطوِّعة.
وفي مواضع أخرى من القرآن الكريم، نجد نفس الأفعال منسوبة للشيطان، مثل قوله – تعالى- عن موسى(عليه السلام) لما دفع المصري، فكان في تلك الدفعة أجله: ﴿وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ﴾ (القصص: 15)، فالشيطان هنا قرين النفس الأمَّارة بالسوء؛ فهو الذي يوسوس للنفس، وهي التي تستجيب، وتنفذ؛ ولذلك كان من دعاء الرسول -صلى الله عليه وسلم-: “أعوذ بك من شرِّ نفسي، ومن شرِّ الشيطان وشركه” (سنن الترمذي).
معنى ذلك، أن أصل النفس أنها “أمَّارة مأمورة، إن ائتمرت بأمر الله أمرت بالحق والخير، وإن ائتمرت بأمر الشيطان أمرت بالباطل والسوء”.
وعن الآية الكريمة ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (يوسف: 53)، يقول السعدي: “… ثم لما كان في هذا الكلام نوع تزكية لنفسها، وأنه لم يجر منها ذنب في شأن يوسف، استدركت فقالت: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي) أي: من المراودة والهمِّ، والحرص الشديد، والكيد في ذلك. (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) أي: لكثيرة الأمر لصاحبها بالسوء، أي: الفاحشة، وسائر الذنوب، فإنها مركب الشيطان، ومنها يدخل على الإنسان (إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي) فنجاه من نفسه الأمارة، حتى صارت نفسه مطمئنة إلى ربها، منقادة لداعي الهدى، متعاصية عن داعي الردى، فذلك ليس من النفس، بل من فضل الله ورحمته بعبده”.
ويضيف السعدي: “(إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي: هو غفور لمن تجرأ على الذنوب والمعاصي، إذا تاب وأناب، (رَحِيمٌ) بقبول توبته، وتوفيقه للأعمال الصالحة، وهذا هو الصواب أن هذا من قول امرأة العزيز، لا من قول يوسف، فإن السياق في كلامها، ويوسف إذ ذاك في السجن لم يحضر”.
وأخيرًا.. حفظنا الله جميعًا من أصحاب النفس الأمّارة بالسوء بحقدهم وحسدهم ونكرانهم للجميل.. إنه سميع مجيب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى