المقالات

قمة الدوحة الخليجية: الآفاق والتحديات

أعادت قمة الدوحة الخليجية الـ (44) التي ترأس فيها سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان وفد المملكة العربية السعودية ملف العلاقات السعودية – القطرية إلى الواجهة. فالعلاقات بين البلدين التي تتسم بالعُمق التاريخي الذي تحكمه أواصر المحبة والأخوة والقربى والمصير المشترك تعود مرحلتها الحديثة إلى نهايات القرن التاسع عشر، عندما غادر الإمام عبد الرحمن بن فيصل بن تركي آل سعود الرياض مُكرهًا إلى الكويت، بعد سيطرة آل رشيد على الرياض؛ حيث كانت قطر إحدى محطاته الثلاث التي مرَّ ومكث فيها لفترة من الزمن قبل وصوله الكويت واستقراره بها قُرابة عشرة أعوام، ثم ليعود إليا فاتحًا ومظفرًا عام 1902م. واللافت أن العلاقات السعودية – القطرية ظلت تتسم بالقوة والمتانة، ومن مظاهرها في بدايات مسيرة التطور السعودية زيارة المغفور له بإذن الله الملك سعود بن عبد العزيز للدوحة في 26 جمادى الأول 1379هـ / الموافق 27 نوفمبر 1959م بناءً على دعوة من حاكم قطر.
وتوليّ قيادتا البلدين الشقيقين اهتمامًا بالغًا بتعزيز وتطوير التعاون والتفاهم المشترك؛ حيث شهدت العلاقات بين البلدين اتصالات مكثفة على مستوى القيادة بعد الإعلان عن توقيع اتفاق المصالحة في 5 يناير 2021م، خلال قمة العلا الخليجية بالمملكة.
ومن مظاهر نمو تلك العلاقات مؤخرًا تأسيس مجلس التنسيق “السعودي القطري”، الذي تأسس في أغسطس 2021م. وقد ترأس ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، الاجتماع السابع للمجلس التنسيقي القطري – السعودي المشترك، على هامش قمة الدوحة الخليجية، حيث استعرضا أهم التحديات التي تواجهها العلاقات الأخوية الوطيدة بين البلدين وسبل دعمها وتطويرها في شتى المجالات، خصوصًا في المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية والاستثمارية وغيرها من المجالات. كما تطرق الجانبان إلى موضوع الحرب الشرسة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، وضرورة تمكين المنظمات الدولية الإنسانية من القيام بدورها في تقديم المساعدات، وتكثيف الجهود للوصول إلى تسوية شاملة وعادلة للقضية الفلسطينية، بما يكفل للشعب الفلسطيني حقه في إقامة دولته المستقلة على حدود 1967م وعاصمتها القدس الشرقية. وثمّن الجانب القطري استضافة المملكة للقمة العربية الإسلامية المشتركة غير العادية في الرياض، وما أثمرت عنه من قرارات تُسهم في إيصال موقف جماعي موحد تجاه أحداث فلسطين، مشيدًا بقيادة السعودية للجهود المبذولة لبلورة تحرك دولي لوقف العدوان على غزة. فيما ثمّن الجانب السعودي جهود قطر، ومن ذلك نجاح الوساطة التي أسفرت عن اتفاق الهدنة الإنسانية لإيصال المساعدات والإفراج عن المعتقلين، وسعيها المستمر للوصول إلى وقف شامل لإطلاق النار.
ويذكر أن القمة الخليجية (44) التي عُقدت في الدوحة في الخامس من ديسمبر 2023 والتي حضرها سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان تطرقت إلى جملة من الموضوعات والقضايا، حيث هيمن التصعيد في قطاع غزة على أعمال تلك القمة التي شارك فيها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
وقد جاءت هذه القمة التي وضعت العدوان الإسرائيلي الغاشم على غزة بندًا أول على رأس جدول أعمالها، الثالثة منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة في السابع من أكتوبر الماضي، وذلك بعد القمة العربية – الإفريقية، والقمة العربية – الإسلامية، وهو ما يعكس مدى الاهتمام الذي تُبديه تلك الدول إزاء ما يتعرض له قطاع غزة من مجازر على يد المحتل الإسرائيلي الذي تسبب في مقتل وجرح وإعاقة عشرات الآلاف من الضحايا من سكان القطاع الأبرياء قُرابة 40% منهم من الأطفال، وتدمير البنية التحتية لغزة، وحوالى 60% من مباني القطاع بما في ذلك المستشفيات والمدارس ودور العبادة، مع حرمان سكانه من الطعام والمياه الصالحة للشرب، والوقود، والأدوية.
هذه القمم الثلاث التي تمحورت أساسًا حول الحرب الشرسة التي تشنها إسرائيل على القطاع، أجمعت على الإدانة الشديدة لهذا العدوان الوحشي، وعلى ضرورة الوقف الفوري لتلك الحرب التي لم يشهد العالم مثيلًا لها من حيث استهدافها للمدنيين منذ الحرب العالمية الثانية، ومن خلال هولوكوست لا يختلف كثيرًا عن الهولوكوست النازي الذي تعرض له اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، والذي يطبقونه الآن بحذافيره ضد فلسطينيي القطاع بكل ما انطوى عليه من ظلم وإجحاف وقسوة، وتجرد من الوازع الأخلاقي والدافع الإنساني.
ودعت تلك القمم الثلاث المجتمع الدولي إلى التدخل لوقف إطلاق النار وحماية المدنيين الفلسطينيين، وعبَّرت عن دعمها المتواصل لرفع المعاناة عن سكان قطاع غزة، والعمل من أجل إنهاء الاحتلال، والبدء في مفاوضات جادة تستند إلى مبدأ حل الدولتين، وعلى وقوفها إلى جانب الشعب الفلسطيني، وقد جاءت قمة الدوحة ملبية لمتطلبات تطور الأحداث المأساوية التي يشهدها قطاع غزة من اشتداد لمعاناة السكان المحاصرين الذين يتعرضون للقصف الوحشي بلا رحمة منذ شهرين كاملين، وهو ما عبر عنه “إعلان الدوحة” الذي أكد على ضرورة الاستئناف الفوري للهدنة الإنسانية وصولًا لوقف كامل ومستدام لوقف إطلاق النار، وضمان وصول كافة المساعدات الإنسانية والإغاثية والاحتياجات الأساسية، واستئناف عمل خطوط الكهرباء والمياه ودخول الوقود والغذاء والدواء لسكان غزة.
ولعل أهم ما تطرقت له القمة -إلى جانب مسألة الحرب الإسرائيلية على غزة- اطلاع المجلس الأعلى لما وصلت إليه المشاورات بشأن تنفيذ قرار المجلس الأعلى في دورته الثانية والثلاثين حول مقترح خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود – رحمه الله- بالانتقال من مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد، وصدور توجيه المجلس الأعلى بالاستمرار في مواصلة الجهود للانتقال من مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحادـ إلى جانب ترحيب المجلس الأعلى بالجهود التي تقوم بها لجنة وزراء الداخلية حيال التأشيرة السياحية الموحدة، واعتماد ما تم التوصل إليه بهذا الشأن.
لا شك أن استمرار مجلس التعاون الخليجي في مواصلة جهوده في توثيق وتمتين العلاقات بين أعضائه، واستمراره في تحمل مسؤولياته والتزاماته في مواجهة القضايا التي تواجه دوله والدول العربية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، لهو خير دليل على نجاح المسيرة الخليجية الرائدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com