عظيم مقامك أيا قلمي وأنت تكتب لأبي، صادق ناطق بما في القلب من أسى لا يقوى له البوح لهول الموقف الجلل، وأنا أكتب الآن طرق فكري قول العرب عن الرثاء
كونه أصدق الشعر لأنهم يقولونه وأكبادهم تتقرح . كيف لا وكل حرف تجود به القريحة خلفه قلب أضناه الحال وعجز عن سرده المقال، فالرثاء هنا هو مناط فخر، نعم أفخر بأبي ودموع العين سيّالة، أفخر به وقلبي يقطن قبره يناجيه صباح مساء، أفخر به وعيني لا ترى إلا طيفه الذي لا يغيب أبدًا.
اللهم صبرًا وجَلدًا وتجلُّدًا ، اللهم لا اعتراض على حكمك، فالأقدار منك تأتي على ألطفها، وتنهال على قلوبنا من ربٍ رحيمٍ بعباده، ماذا أقول غير ذلك؟ _الحمد لله على قضائه _ توفي أبي الغالي وسكن الحزن قلبي لا جزعًا ولا تسخطًا، _إنه فقيدي_ كيف لي أن أصف لكم روحًا أتنفس قربها؟ و أتنهد غصّةً لبعدها، فلم تعد معنا في أيامنا ومناسباتنا وأعيادنا . أبي .. أخذتك الأقدار بأمر باريها، أبي .. لا يذهب عن بالي وقلبي يوم وفاتك والأحداث الوجيزة تلك، أتت متسارعة متلاحقة تترى، والقلب بعدها عجز أن يبرى، فلم تمهلنا وقت الاستيعاب لما نحن عليه، أبي .. في تلك الأيام القليلة قبل وفاتك وأنت على فراش المرض كنت تقول: اطمئنوا فأنا بأتم صحة وعافية ولا أشكو من شيء، ونحن نعلم أنك تقولها احتسابًا لله بغية الأجر، ونعلم تماما أن هذه طِباعك دائمًا تواري كل ما يقلق من حولك على حالك، الحمد لله فكل أمرٍ من الله خير، انقضت أيامك يا أبي وأصبحت بجوار أرحم الراحمين، قدرٌ عليك ولطفٌ من الله أنه لم يأتِ عليك حال العجز أو الوهن أو الضعف الذي طالما أنت تستعيذ منه ولا تطيقه روحك أبدًا، انقضت أيامك ولم ينقضِ دمع العين إلى الآن كلما جاب القلب رِحاب ذكراك العذبة، ولم أنسَ ذلك اليوم الذي ودعْتُك فيه ورأسي على صدرك الطاهر، وأنا أنظر لمحياك النضر وثغرك الباسم لرؤية مكانك عند ربٍ رحيم، وقبّلتُك قُبلة الوداع فلن أرى هذا المحيا إلا طيفًا يرتسم في القلب، بكيتُك حتى ذَعَر مني البكاء ، ذهبتُ مودعة والتفتُ إليك بنظرةٍ مسلّمة أمري لله الذي أودعته حالي أن يلطف به.
كفكف دموعك أيها القلم، وجُد بجليل مناقب الراحل فهو عند ربه منعم، فقد قلت في مقدمتي أن رثائي هو مناط فخر، ألقوا على العطاء والتفاني والبذل والسعي تحية وسلامًا، واسألوا : من أي مَعين أنتم؟ من أي نبعٍ صافٍ جئتم؟ ولا ريب أنهم من ذلك الرجل المعطاء، أبي الغالي الذي أمضى سنوات عمره في مجال التعليم والإدارة، رجلٌ تربوي إداري حكيمٌ مثقفٌ شغوف،رجلٌ على سادة الرجال، يفخرُ التعليم به وبما أعطى وأجزل وتفانى، وها أنا يا أبي على مضيك وعلى سنا خُطاك، محتفظة بكل شهاداتي التي ستكون مؤطرة بإطار في لوحة ، سأفعل كما كنتَ تفعلُ بشهاداتك ، محتفظة بكل ما يُعلي من شأني لأنه شأنك أنت يا أبي وثمرة تعبك، فكل إنجازاتي السالفة واللاحقة هي على شرف روحك ، وكل كلماتك وتوجيهاتك ونُصحك جرْسٌ في مسمعي وضياء في قلبي ولدربي، هل تتذكر يا أبي ؟؟ تتذكر عندما كان على لسانك العذب دومًا مرددًا ..
قول الشاعر ..
العلم يرفع بيتًا لا عماد له
والجهل يهدم بيت العز والشرف
دائما في مجالستِك ما يُثري ، دائمًا في سؤالك ما يُعلي. وأنت تسألنا دومًا : ماذا جنيتم؟ وإلى أي طريق من البذل وصلتم ؟ وكم باب من أبواب السعي طرقتم؟ هكذا كنت معنا وبهذا نحن سنمضي ، سأظل أشتاق لحديثك الذي يجوب كل المناحي، تُحب الاستزادة، وتُحب النقاش الثري وتُحب الخوض فيما يعود بالنفع، سأظل أكرر حديثك في خَلدي ويطيب له فِكري وقلبي وروحي ، أستحضرُ الآن يا أبي عندما كنتَ تنادينا بألقاب محببة لقلوبنا وتغار الواحدة من أخواتي من الأخرى وتُرضيها بمناداتها وتعقبها أخرى، كنتَ الأب والأحب والأقرب لقلوبنا.
أيا روح الفؤاد وسند أيامي وقوتي والعتاد، أفخر كونك أبي، وأريد أن أبلغك أنني محتفظة ببعض كتبك التي كلما قرأتُ من صفحاتها وجدتُك أمامي وطيفك يرمقني مبتهجًا، أتعلمُ أي كتاب أحببتُ ؟؟ إنه كتاب ( بنو سُليم ) لعبد القدوس الأنصاري، أيا سيد سادات بني سُليم أنت يا أبي ، على الفور احتضنتُه وجعلته بين أكناف مكتبتي، وأي قبيلة كسُليم،؟؟ يكفي فخرًا أن يقول القائل: (أنا من سُليم) كتابٌ يحمل في طياته مآثر سليم من شعرائها وأدبائها وفقهائها وعلمائها نساء ورجالا، وبحثُك ، الذي بعنوان ( القائد التربوي الناجح ) جعلته على أوجّ مكتبتي فخرًا بك واعتزازًا، وسأمضي على نهجه في مجال التأليف والبحث، ولا أنسى مبادراتك وإسهاماتك في مجال العمل، ووجدتُ أيضًا كثيرًا من المقتنيات الثرية العلمية و الأدبية والثقافية ومجلدات بأسمائها وأعلامها وصفحاتها التي جالستَها ونهلتَ من فيضها المدرار ..
وسأختم وأقول: لي إخوة رجالٌ فاق بهم الوصف حتى تعدى مداه، ورام لهم العز واعتلى في علاه ، دامت أرواحهم المتآلفة المتكاتفة ذخرًا وعزًا من بعد أبي.
رحمك الله يا أبي، وما سلف من نسجٍ وحرف إنما هو غيض من فيض ملأ حياته عندما كان على قيدها.
فاللهم رحمة تملأ ثراه الطاهر، اللهم مغفرة تمطر على روح غادرت مكانًا ولم تُغادر قلوب أحبتها، اللهم صبرًا وجبرًا واحتسابًا، اللهم إن أبي في جوارك و رِحابك ، اجعله منعمًا في جناتك يا رب العالمين وارحم واغفر لجميع موتى المسلمين.